شارع الملك عبدالله بن عبدالعزيز يُوصل إلى أجمل ما في أبوظبي

> د. هيثم الزبيدي:

> ​في التقاطع المؤدي إلى فندق الانتركونتيننتال أبوظبي، سواء أكنت تأتي من شارع البطين أم من ناحية الخالدية، تحمل لافتة شارع من أجمل وأهم الشوارع في أبوظبي اسم العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز. الشارع الفاره يؤدي في نهايته إلى مجموعة من أهم معالم العاصمة الإماراتية: قصر الإمارات وأبراج الاتحاد والطريق المؤدي إلى قصر الرئاسة. قبل أيام كان المرور بذلك التقاطع تذكرة بمرحلة مهمة من التوافق السعودي – الإماراتي كان لها بالغ الأثر في إنقاذ المنطقة من إحدى أهم الأزمات التي عصفت بها منذ تأسيس الشرق الأوسط الجديد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

لا شك أن منطقة الخليج كانت الأقل تأثرا بتداعيات ما سمي بالربيع العربي. الواقع الاجتماعي والسياسي في المنطقة يختلف كثيرا عن حالة التوتر في دول مثل مصر وتونس وسوريا واليمن. دولة الرعاية الاجتماعية في الخليج كانت ضمنيا دولة التوافق السياسي بين الحاكم والمواطن. هذا لم يمنع بالطبع من بروز أصوات من الخليج تحاكي الصراخ الذي ساد في مراحل الربيع العربي الأولى في مناطق أخرى من العالم العربي.

ما ميّز التعاطي الخليجي مع أزمة الربيع العربي هو الإدراك المبكر لدى قيادات خليجية لخطورة هذا التطور وأن المنطقة الهادئة نسبيا لن تكون بمنأى عن العاصفة. قطر مثلا اختارت ركوب موجة الربيع العربي واستثمرت في تصدر الإخوان للمشهد رغم أنهم ليسوا من صنعوه. القيادة في الإمارات كان لها موقف الضد بالكامل مما يحدث وأدركت أن ما يسمى بالربيع العربي هو شتاء قاس سيجتاح المنطقة ويدمرها. وفي لحظة فاصلة، تحرك الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي آنذاك بحزم وأقنع القيادة السعودية بأن لا مجال للتردد في مواجهة الأزمة التي لاحت بوادر استغلالها من قوى الإسلام السياسي الأكبر في المنطقة، أي إيران وتركيا. تحركت السعودية والإمارات لضمان الأمن في البحرين، لكن الخطوة الأهم والأكبر هي محاصرة المد الإخواني في مصر وتسديد الضربة التي قصمت ظهر المشروع هناك. بقية القصة معروفة.

في وقت الأزمات، انتبه القادة العقلاء في المنطقة إلى أن لا خيارات كثيرة إلا بمواجهة هذه الأزمات معًا. إنقاذ المنطقة من الفوضى كان في تلك اللحظة المهمة من التوافق بين الإمارات والسعودية؛ لحظة تجاوزت الاحتكاكات السياسية حول ما تبقى من مشاكل الحدود بين البلدين التي عكرت صفو العلاقة بينهما منذ تأسيس دولة الاتحاد في الإمارات، ولعلها تطل بين حين وآخر إلى يومنا هذا. الهدوء والجدية والصرامة في التعامل مع أزمة الربيع العربي، مسحت تلك المشاهد التي سبقت الأزمة بسنوات قليلة لطوابير الشاحنات العابرة من الإمارات إلى السعودية والتي منعت من العبور على خلفية رسم في خريطة إماراتية اعتبرها وزير الداخلية السعودي الراحل الأمير نايف بن عبدالعزيز تجاوزا على “حق” سعودي في منطقة حدودية.

ثم تطورت العلاقات أواخر عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز وبداية عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي تميز بالصعود الكبير لولي عهده الأمير محمد بن سلمان. تجلت “العلاقة الخاصة” بين البلدين بتوافق سياسي نادر في المنطقة. بمرور الوقت، تجلت رؤية الشيخ محمد بن زايد للمنطقة بترتيبات مشتركة وصعد محور السعودية – الإمارات بشكل لافت. صحيح أن الإخوان تراجعوا في كل المنطقة العربية وتفككت مشاريعهم في أكثر من بلد، لكنّ المشروعين الداعمين للإسلام السياسي، أي إيران وتركيا، كانا في أشد اندفاعهما وكان من الضروري أن يتماسك المحور الخليجي – العربي في مواجهتهما.

منطق “العلاقة الخاصة” الذي ساد بين البلدين ما كان ليشذ عن أيّ علاقة إستراتيجية خاصة بين بلدين بمصالح متقاربة، ولكنها ليست بالضرورة متطابقة. خذ مثلا “العلاقة الخاصة” بين الولايات المتحدة وبريطانيا. عندما اندفعت واشنطن نحو الحرب على العراق، لم تذهب لندن معها إلى الحرب عن اقتناع وإنما لأن بريطانيا أدركت أن كلفة عدم القيام بذلك ستكون تداعياتها الإستراتيجية أبهظ على البلدين. سبق وأن اختلف البلدان في قضية حرب فيتنام، ودفعا ثمنا غاليا.

تحركت الأمور في المنطقة كثيرا منذ أن تأسست هذه العلاقة الخاصة. حرب اليمن لم تسر فيها الأمور كما خُطط لها. الإيرانيون والقطريون والإخوان والعمانيون تدخلوا كثيرا هناك وخُلطت الأوراق. وما لم تحققه السعودية في منطقة تواجد الحوثيين الأساسية، أي شمال اليمن، أصبحت تريد تحقيقه في حضرموت والمهرة. ومن بين التفسيرات التي صرنا نسمعها للبرود الحاصل في العلاقة بين البلدين أن الخلاف دار حول مآلات الأمور في اليمن. لعل مسارات التحالفات في التاريخ تقول إن مثل هذا الخلاف متوقع دائما. لكن يبقى الهدف المشترك الأكبر ما يزيله أو يساعد على تحجيم أثره.

لكن برأيي أن من أسباب الخلاف هو الفرق بين رغبة الإمارات من جهة وعدم رغبة السعودية من جهة أخرى في دفع أثمان المواقف السياسية في المنطقة وعالميّا. اكتبْ كمراقب وليس كخبير إستراتيجي. لا يمكن أن تتوقع أن تخرج رابحا بالكامل من كل موقف أو إجراء سياسي تتخذه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بموقف ضمن سياق إقليمي أو دولي، حيث تتقاطع المصالح مع مصالح آخرين. يمكن القول إن الإمارات تدرك أن مقابل الربح بالمحصلة، عليك أن تتقبل أن تدفع الثمن. وسواء أكان الثمن سياسيا أم ماديا، فإن من الموضوعية السياسية، أو الواقعية السياسية، تقبّل الأمر. لا مجال للربح بالكامل.

لعل هذا ما يجعل الفرق واضحا بين مواقف الإمارات والسعودية. لسبب ما، يسود اعتقاد بأن السعودية يمكن أن تخرج من المعمعة الإقليمية الراهنة رابحة بالمطلق، ودون دفع أثمان، أو بتعبير آخر دون تحمّل خسائر. لا يمكن مثلا أن تلوّح باتفاق سلام مع إسرائيل لتكسب اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة من دون أن تدفع ثمنا مقابل ذلك. لا يمكن أن تجري توافقا مع إيران وتستغرب من خسارة نفوذك في لبنان لأن اللبنانيين يرون أنك تركتهم لمصيرهم أمام حزب الله وهيمنته. لماذا تستطيع أن ترسي تفاهمات مع عدو مسيء شهر بك إلى أبعد الحدود مثل تركيا أردوغان، بينما لا تبادر إلى مد يد العون للأردن الذي يغلي على حدودك الشمالية بسبب الوضع الاقتصادي والتحريض الذي تمارسه حماس والإخوان ضده؟

هذه أمثلة سياسية. لكن منطق الانسحاب من المنطقة والتركيز على “السعودية أولا”، يمتد إلى الكثير من المصالح الاقتصادية وحركة التجارة. السعودية أكبر بلد من ناحية حجم الاقتصاد بحكم الريع النفطي. هل ثمة حاجة إلى تخويف الشركات الكبرى بخسارة أعمالها في السعودية إذا لم تنقل مقراتها الإقليمية إلى الرياض؟ ها هي أم بي سي تستقطب معظم الإنتاج الدرامي العربي، خصوصا من مصر وسوريا ولبنان، من دون اللجوء إلى سياسة “إما / أو”.

ومثلما قررت السعودية أن تدفع داخليا ثمن التحول الاجتماعي اللافت والمذهل الذي حدث خلال السنوات الأخيرة، عليها أن تضع منطق دفع الثمن في كل شيء، وخصوصا في الجانب السياسي.

حاول مغرضون يستفيدون من أي تفكك في التحالف الإماراتي – السعودي الاستثمار في البرود الذي يسود العلاقات. تزدحم حسابات مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات تتمنى تخريب العلاقة الخاصة. حتى الإشارات الإيجابية، مثل اللقاء الذي جرى بين الشيخ محمد بن زايد والأمير محمد بن سلمان في قصر العزيزية بالمنطقة الشرقية في السعودية قبل يومين، فسرت بعكس المرجو منها. التكتم في تسريب تفاصيله فسّر لصالح الشقاق. الصورة التي نشرها مدير مكتب ولي العهد السعودي بدر العساكر والتعليق الذي كتبه مستشار رئيس دولة الإمارات للشؤون الدبلوماسية أنور قرقاش عن اللقاء لم يكونا كافييْن للجم الأقاويل. من حقنا أن نسأل المستثمرين في الفتن: ما الذي يمنع من أن يكون الاجتماع لقاء عتب ومصارحة؟

مرة أخرى تجد المنطقة نفسها في مفترق طرق خطير يذكّر بما حدث في بداية العقد الماضي، وكيف أن البلدين في ساعة الجد الحاسمة أصبحا يدا واحدة. ذلك التقاطع في شارع الملك عبدالله بن عبدالعزيز يُذكرنا بتلك المواقف المصيرية في حياة المنطقة، ويُذكر الزائر السعودي بأنه يوصلنا إلى أجمل ما في أبوظبي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى