ما كان من جالوت..
أعطيتموه استقالة، وهذا فعلكم يا قوم جالوت المنكور، يوم تقدم قبلكم وتصدر الموقف، وأي موقف حين لم يكن أحدًا ينتيه ولم تتبلور بعد فكرة هذا المكون أو الكيان العدني الجنوبي، كانت الأفكار شتى والحرب الباردة بين المكونات الجنوبية تحت الأرض مرة تشتعل ومرة تخمد، وما بين الخلافات هناك ما يكفي من اتهامات لا تعزز المقصد بقدر ما تفرق الأيادي، لكنه كان قويا وظهر قويا وسط كل هذه التجاذبات والتنازعات، جاء من بين كل الخلافات وهو لا يعرفها ولا طرف له في صدام سابق ولا خلاف قديم، ظهر حين احتاجت كل الأصوات إلى أن يعززها ويدفع بها إلى الأمام، بل يخرجها من هشيم النيران التي تشتعل حولها، قوة شخصيته ونواياه ظهرت من دون خفايا ولا ألاعيب داخلية ولا خارجية، وصدق في خطوته وبدأها.
أعطوه استقالة وخذلوه ولكنه كان يؤمن أن جالوت لن ينتصر قط، وما أبخس الثمن حين يسعى إليه غير أهله، لأن العملة القديمة لا تشيخ ولا ترمى ولا ترخص قط، وهذا هو معدن اللواء أحمد سعيد بن بريك المحب لأهله وبلده وفكره وأمانته، بوركت أيها المشخص الأصلي.
هكذا كان المناضل اللواء أحمد سعيد بن بريك الذي نصر إخوته في الجنوب نهض حين نهضوا، ورفع صوته حال أن أجمع المجلس السياسي الانتقالي الجنوبي وأعلن عن ظهوره وكان أحد مؤسسيه ورجاله وأبطاله وصادقيه وفي الخندق الأول، كما كان يجب أن يكون أبو عصام القائد الجبهوي صاحب المكانة التي صنعها بكفاحه وقوة نضاله ومبادئه التي لا تتغير قط.
ومن يومها وفي قوام المجلس النضالي شرع يبني الأركان حجرة حجرة ويفتح السبل للتحرك والتواصل ما بين كل الأطراف، كان في حضرموت ويتبوأ أكبر منصب ويديرها مالًا وإدارة نفطًا وذهبًا وبشرًا وموانئ ومنافذ، كل شيء كان تحت يديه، ومالا يملكه غيره كان لديه وتحت يديه وكل هذا لم يجعله يسدد بندقية الكيد.
نحو غيره ويكتفي بما لديه الكرسي السمين، والمنصب الغليظ الشديد والموارد وبإمكانه أن يقول أنا واتبعوني ولكم، وأن تتصوروا ما كان أن يكون وأن يسكب المال في الطريق أو يخلطه بسكر وهذا يكفي ليرضى عنه الآخرين ويقفلوا باب الزعل، وحينها يصبح باب الزعل مقفول.
لكن لأنه أحمد سعيد بن بريك ومثقل بأوجاع الجنوب، ومؤتمن على دماء الشهداء ورفيق حقيقي لا يخلف وعده، ترك كل هذا حين اشتدت العاصفة، بل وخيروه فاختار الذهب والغلب والسلب، وما كان منه إلا أن غلب عليه الحق والمصير والمعاناة والدم والدموع في عدن وعتق ولحج والشحر وتريم، وانحاز انحيازًا أذهل كل المراقبين والمتابعين، قال لن تغريني كل هذه المظاهر والسلطة والجاه المزيف، وكف يده عما يفعل الفاسدون ومحبو الحرام والانتهازيون، وبكل جدية كان الأمين الذي لا يحيد ولا يخون أمانته، وفعلها وشاهدنا كيف كانت الدموع في عيونه حين شعر بأن فرعون وقومه استهدفوه ومن هم ضعاف النفوس والوصوليون وكأنما هناك سباق غنائم وفيد وتقاسم تركة الكرسي الذي سيتركه وسيأخذه غيره مكافأة له جزاءً وإحسانا.
وماذا بعد أن سار قطار النضال وكان فارسا ورجل الميدان، جاءته هذه المرة من وسط المؤيدين، وخذله من طالته يد تحنو عليه، أرادوا هذا طمعًا وفتح باب الصراع، لكنه وهو الشهم الأبي، ترك الجمل بما حمل فابن السلاطين لا ينتقصه شيء مهما تآمروا، وما أكثر من تآمر، غادر الخندق والرصاص يلعلع، حتى لا تتغير الموازين وينتكس الحلم.