ما أن تقسمت حضرموت بين الوادي والساحل حتى كبرت التآمرات وتغلغلت الدسائس، وليس كل هذه الأصابع السوداء من خارج حضرموت بل بعضهم حضارم وأصحاب مشاريع تفكيك ومساعٍ لئيمة لا نرجو منها إلا التواجه الخطير والمخاوف والقلق.
لماذا حضرموت تقع في وسط الضوء دائما؟ ومع هذا لا تحصل حتى على قليل من الظهور، بقدر ما هي مؤثرة ولعبت دورا في ظهور جمهورية اليمن الجنوبية وكذا في ضبط معظم الأحداث التي توالت بعد الاستقلال إلا أنها تعيش حالة امتعاض وعدم رضى بوجودها في نطاق سياسي لا يحمل اسمها ولا يحتضن سكانها ولا تلمس ثروتها ولا تحكم نفسها بنفسها، هذا ما ظل هاجسها المتحرك الذي يتزعزع تحت قشرة الأنظمة والانقلابات والتحولات داخل اليمن كله.
ماذا تريد حضرموت، وماذا ما بعد الهضبة، إذا قسنا أو وزننا ثقل حضرموت في ميزان الدول والأقاليم الكبرى فإن حضرموت امتلكت علاقات متمددة أكثر مما تملك الدولة الحالية، ولها عمق تاريخي خارجي لا يتوقف في هولندا، أو برلين أو جامعة كولومبيا بأمريكا أو ساحل مالي ويصل إلى اليابان وسنغافورة وجنوب أفريقيا، وهي إن ناضلت من أجل أن تصبح دولة وسيادة ليس على أرض وجغرافيا غيرها، بل على أرضها الحالية وما تبقى من المنهوب منها وبحارها فإنها شرعيا يجوز لها مبكرا قبل أفول النهار، وهذا فيه من الحق والشرعية والتاريخ شواهد قديمة ومعاصرة وأفق لا حدود له إذا شئنا مواكبته أو تجاوزه.
هي ليس أقل شأنا ولا ثروة ولا سكانا ولا موقعا ولا تراثا من كراوتيا، ودولة سلوفينا الصغيرة، ولا سوسيتيا الجنوبية ولا ليتوانيا ودول البلطيق ولا تيمور الشرقية، ونحن نعلم ظهور هذه الدول وكيف كانت وماذا أصبحت حين أراد أهلها وتضحياتهم وإن كانت عصيبة، إلا أن حضرموت دفعت من الدماء والتضحيات والنضال والمواقف الكثير لها ولغيرها حتى يستقر الحال ويعم السلم العام وتنجح مشاريع خارج إرادتها رغما عنها.
ما بعد الهضبة ليس انتهاكا لقوانين وليس اقتحاما لخرق في النظام الإقليمي ولا الدولي، هذا انسياب مع وقائع التطورات وعدم الاستقرار لا في الشمال ولا في الجنوب ولا في حضرموت، وحين يجنح الحضارم للسلم والسكينة ويعتبر هذا قوة ناعمة تعادل النزاعات التي تتفجر حولها فإن تجمع حضرموت في الهضبة وما قبلها هو كسر لحاجز المخاوف القديمة وانفتاح على الحلول السياسة والتعزيز، لأن تهدأ ماكنة الحرب والاقتتال الداخلي وتكرار هذه الانزلاقات التي ما من حل إلا بأن تتعايش الأجزاء والمكونات متجاورة وتلزم بتجنب التصادم والانتقامات وردود الأفعال.
ما تظهره حضرموت في سياق النظرة القادمة فكرا وحراكا وتطلعا هو الابتعاد عن جعلها غنيمة لمن يفوز في الصراع السياسي، وأن يكف الآخرون في النظر لها بأنها صندوق ثروة هائل لمن يتقوى أو نظام مؤقت تفرزه الأحداث، وهذا ما حدث سابقا ومجرب ومازلنا نتذكر ولم ننس.
أن تضبط المنطقة كلها بحل كبير وربما خارج رضى البعض أو أطماعه فهذا يجوز تفاديا لتجنب تضحيات وخسائر وضياع لأراضي وبحار إذا طالت المواجهات أو تكررت ولم تتوقف، وهو مخرج حكيم وكما يقول المثل(آخر العلاج الكي) وليس هذا إلا تجاوبا مع مطالب حضرموت وكيانها الذي تأمل أن لا يتأخر ظهوره وبعد أن أعياها الانتظار وسئمت من مقولة (أربعة شلوا جمل والجمل ما شل خوه).
مازالت هناك مفاتيح باليد ولدى الحضارم بالذات وليس غيرهم، ومن يحلم بأنه سيتقاسم ثروة حضرموت أو تراب حضرموت أو مغانم منها فهذا زمن ولى وما بعد الهضبة فإننا نعرف معنى ما يقال إن -ما حد يلقي سقاية وأهل بيته ظمأـ أما ما بيدنا حاليا فإنه انسجام مع المثل القائل (أنا قدنا مع أمي ومن جاته بنية تجييه).