العنف السري

> محمد فارع الشيباني:

>
محمد فارع الشيباني
محمد فارع الشيباني
(العنف السري) هو عنوان كتاب للصحفي الإيطالي ماريو جاكوميللي صدر في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي حينما كانت أفريقيا ملتهبة بحروب التحرير، تلك السنوات التي أطلق عليها (سنوات الجمر).

ومع أن هذا الكتاب صدر في مرحلة صدرت فيها مجموعة من الكتب مثل (المعذبون في الأرض) و (دع قومي) و(زنجية من) إلا أنه لم ينل الشهرة التي حصلت عليها هذه الكتب، كما أنه لم يترجم إلى لغات أخرى غير لغته الأصلية، مع أنني أرى أنه تناول قضية لم يتناولها أحد من قبل، فمثلا الكتب التي ذكرتها كانت كتبا مباشرة عن ظلم الاستعار للبلدان المستعمرة وعن كيفية نهب ثرواتها، أي أنها كانت عن الاستعمار مباشرة وعنيفة في تناولها، ولكن كتاب جاكوميللي كان مختلفا، فهو رغم تحدثه عن الاستعمار فإنه يكشف عن العنف السري الذي يقع على المواطنين المحليين من المواطنين الآتين من بلد المستعمر، وهذا هو الجديد في كتابه، فهو يعتبر أن هناك عنفا مباشرا ومكشوفا يمارسه الاحتلال بنهبه خيرات البلد المستعمر والسيطرة على مقدراته، والعنف السري هو ما يمارسه المدنيون الآتون من بلاد المستعمر على المواطنين في البلد الخاضع للاستعار، فهو لا يكتب مثل تلك الكتب وبعنف ورفض للاستعمار، إنما يكتب عن ظاهرة أخرى عنيفة ومؤلمة لم يكتب عنها أحد، وفي كتابه المؤلف من نحو خمسمائة صفحة يفضح أنواعا كثيرة من العنف السري، منها مثلا وليس حصرا أن هؤلاء المدنيين الذين جاءوا مع قوات الاحتلال وفي مدة وجيزة يمتلكون جميع المرافق الاقتصادية في البلد المحتل، فهم يسيطرون على التجارة وعلى جميع المؤسسات التجارية ولا يسمحون لأبناء البلد الأصليين بالعمل حتى في أبسط الأعمال التجارية، كما أن المباني الفخمة في أفضل الشوارع تصبح ملكا لهم وكذلك أخصب الأراضي الزراعية، ويتحول فلاحو الأراضي الزراعية وملاكها إلى أجراء يعملون لديهم، وهؤلاء المدنيون الآتون من بلدان أوروبا مع الاستعمار ينشئون الفنادق والأماكن الترفيهية على نمط ما هو موجود في بلدانهم، وبذلك يحاولون أن يطبعوا البلد كله حسب طبعهم ويتصرف حسب تقاليدهم، وللترفيه عنهم فإنهم يقيمون النوادي الليلية ويحاولون قدر المستطاع أن يحولوا نساء البلد المحتل إلى سلع وإذا لم ينجحوا في ذلك فإنهم يجلبون نساء من بلدانهم الأصلية.

أما في الإدارة الحكومية فإنهم يجلبون كبار المسؤولين من بلدانهم ولا يسمحون للسكان الأصليين إلا بالعمل في الوظائف المساعدة، ليس ذلك فقط بل إن هؤلاء المسؤولين القادمين يحصلون على رواتب وامتيازات عالية ويسكنون في أكبر المنازل وأفخمها إن لم يمتلكوها فعلا.

وهناك الكثير مما يذكره الصحفي جاكوميللي في كتابه من أشياء يندى لها الجبين أترفع عن ذكرها.

لقد استطاع جاكوميللي أن يصور بدقة أنواعا من العنف (السري فعلاً) لأن الكتاب والصحفيين في انشغالهم بالكتابة المباشرة في المعركة ضد الاستعمار اعتبروا ما كتبه شيئا ثانويا ونتيجة مباشرة عن العنف المباشر والمكشوف ولم يهتموا به، أما هو فقد آثر أن يكتب عن هذا العنف الذي غفل عنه الآخرون. اللهم ارحم عدن اللهم ارحم عبادك فيها. آمين يارب العالمين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى