حكاية الواد زاكي

> أديب قاسم:

> كانت هذه الحكاية، وكنت أقف إلى جواره تحت شجرة (المريمرة) عند مدخل دار الهمداني .. وجرى الحديث همساً لأن الجرح كان لايزال طرياً وعميقاً مثلما أن النفق عميق وحقيقي .. وذلك هو شهر فبراير الذي أعقب يناير الدامي في الجنوب أو ما كانت تسمى بـ«جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» همس لي الواد زاكي كما كنا نطلق على الشاعر المصري زكي عمر :

«أديب .. يا أخي، أما ترى معي أن كل من جاء إلى السلطة (في هذا البلد) لا يغادرها إلا (خائناًً) .. أو هذا ما يطلقونه عليه بعد ذهابه؟».

توقف هنيهة ثم استطرد قائلاً : «قحطان، رُبيِّع، علي ناصر، .. ولا أدري من سيكون التالي .. أترى أن هذا حقيقي ؟ إذن ..».

قلت له وقد فهمت مرماه :

«فالإنجليز كانوا هم الأفضل ؟».

هتف لي مبتسما :«آه يا واد!».

قلت:«ما كان أحد من هؤلاء خائناً قط.. لكن ثمة شخص أو أفراد عاصروهم بل شاركوهم في اللعبة السياسية، وكانوا كالزئبق لا تكاد تمسك بهم حتى يتمصلوا من بين أصابعك .. إنهم يتدفقون من (نهر الشمال).. مرت أيديهم على هؤلاء بتهمة (الخيانة). وهم أي الثلاثة وتستطيع أن تضيف إليهم ف.الشعبي وهيثم، ومطيع، وقد تعاقب الأولان على رئاسة الحكومة والثالث أمسك بالخارجية أخطر الحقائب .. إنهم أبرياء براءة الجنين في بطن أمه !.. وكانوا على جانب كبير من الثقافة، وبعضهم عركته الحياة فنمَّى فكره بالتثاقف .. وكلهم جنوبيون اقتربوا كثيراً من فن إدارة الدولة كما كانت في عهدة المستعمر الإنجليزي، وفيما جعلوا يقتربون من خط الفكر القومي».

ذهب زكي عمر (الواد زاكي الحبيب) غرقاً في حضن شواطئ عدن .. وعدت بعد عقدين إلى تلك الشجرة التي كنا نقف تحتها في ذلك اليوم الكسيف وقلت لها (للشجرة) وكأني أحدث زكي :

«.. غير أن كوارثنا -كما نشهدها اليوم - وطوال تلك الحقبة الممتدة حتى توجت بـ(يوليو) الكارثي كانت تتدفق من (نهر الشمال) الذي لا يحمل معه إلا رياح السموم، أو هي الريح الشمالية التي تدفع الأعاصير والأتربة وكل أشكال الخيانات !

بلى يا زاكي .. يبدو أن الإنجليز كانوا هم الأفضل حتى تشبهوا لنا في تلك النماذج الجنوبية، بما ورثوه عنهم من عقلية متحضرة طالما كانت أسّ المجتمع المدني الحديث .

(شأنهم شأن المكاوي والأصنج وآل لقمان بدءاً بمحمد علي لقمان المحامي وآل الخليفة وآل جرجرة وآل باشراحيل.. والقائمة ليس لها حصر) وهم الأكثر ثقافة وتمدناً وحضارة وقد اتهموا بضروب من الخيانات تحت عبث الأقدار !

كان الإنجليز هم الأفضل .. ومقارنة مع اللحظة التاريخية التي نعيشها في الحضن الشمالي .. فهم لم ينهبوا بترولنا وكانوا على معرفة بوجوده وكان أن يجرى الكشف عنه لولا استراتيجية الصراع الدولي .. لم يسرقوا ثرواتنا البحرية .. لم ينهشوا أجسادنا .. لم يعبثوا بآثارنا ومعالمنا التاريخية .. لم يسلبونا الأرض التي عليها نعيش.. لم يحرمونا من لقمة العيش (كما صور العابثون بالحقائق الأخلاقية).. لم يستأثروا بالتعليم العالي ليكون من حق أولادهم فحسب، فكان منا المحامون، والأطباء، والمهندسون، والملاحون، والمؤرخون، والمربون، ورجال الصحافة والأدب .. إلخ، انتشلونا من القاع إلى قمة الهرم .. دعونا لمشاركتهم في الحكم .. ومشاركتهم في قيادة الجيش.. وإدارة الدولة.. شيدوا لنا منطقة حرة (حقيقية) كانت سيدة البحار .. وفتحوا لنا أبواب التجارة والغنى.. لم يحددوا هوياتنا باللهجات ولا بالمعتقد الديني!.. وتحولت البرجوازية متدرجة من يد الإنجليز إلى الهنود والعرب وغيرهم .

وعشنا حياة إنسانية سامية في تآخ وتراحم وتواد مع الهنود والفرس والصومال واليهود والطليان والجريك والإثنيين والزنوج الأفارقة وحتى العنصر الصيني، وسط مجتمع كوزموبوليتاني من اكتساب الجميع لحق التراب Jus soli وحق الدم Jus sanguinis فتآلفت القلوب من كل الأجناس تحت روح المواطنة العالمية.. فغدت عدن أم الدنيا .. وأم الجائع والفقير .

وفي هذا التجانس والتنوع الثقافي والعرقي بطابعه الإنساني قال الشاعر إدريس حنبلة :

عدن بها زُمَرُ الشعوب كأنَّها

صندوق ألوان بهيُّ المنظر

وسار بها الشعر العدني الشعبي :

ياسين عليك ياعدن

ياسين عليك ياسين

أنت مُربّي اليتيم

وجابرة كل مسكين

نعم، أخي زكي عمر : الإنجليز هم الأفضل بامتياز .. والجنوبي وإن أخطأ وبدون خيانات!».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى