التجاهل المخيف للقامات الإبداعية

> أ.د. سمير عبد الرحمن الشميري:

>
أ.د. سمير الشميري
أ.د. سمير الشميري
القاص أحمد محفوظ عمر من مواليد عدن 1936م،اشتغل في حقل التربية والتعليم وفي سفر حياته التعليمية، كان أستاذاً في يومٍ ما للرئيس عبد ربه منصور هادي، كنت أتمنى على الرئيس هادي أن يمــد بصره إلى قامة قصصية سامقة ومهضومة حجبها ستار سميك من التجاهل، وأن يكرّم القاص المبدع أحمد محفوظ عمر ويضاف اسمه إلى قائمة الأسماء اللامعة التي كرمها يوم الخميس 26/6/2014م.
فثمة أسماء تظهر فجأة في سماء الثقافة مرفوقة بصخب إعلامي كبير لا تتلاءم وحجمها الثقافي والإبداعي، ويتم صناعتها من قبل جهات ومؤسسات لتزييف الوعي والترويج لشخصيات منفوخة بمديح من المغالطات، ليس لها علو كعب في خارطة الإبداع الثقافي ومنهم من يكتب بلغة ميتة خالية من نكهة الإبداع، ولا تخرج من ضلوعهم وأفئدتهم الولادات الفنية والإبداعية الجديدة .
لقد أصاب كبــد الحقيقة أحــد المثقفين العرب عندما قال : "في مطلع كل يوم، تخرج إلى النور عشرات الكتب الأدبية العربية التي يصفها أصحابها من النقاد بالإبداعية أو الطليعية أو الحداثوية، لا لشيء إلا لأنها تحتوي على نصوص الساري فيها كالساري في ليل مظلم، وما هي في الواقع سوى نتاج مراهقة أدبية، أو مخيلة سائبة غير منضبطة لم تخضع لتربية علمية أو أدبية أو فنية. وأصحاب هذه النصوص لا يعرف أحــد من أين أتوا؟، وما مؤهلاتهم؟، وما الذي يريدون أن يقولوه بالضبط؟ (1).
القاص أحمد محفوظ عمر يحمل على ظهره 78من السنين، ويعيش حياة طبيعية معجونة بالمعاناة وحتى اللحظة لم يحظ برعاية مادية أو معنوية من المراجع المسؤولة، وقد لا يعرف البعض أن هذا الكاتب أغنى المكتبة اليمنية والعربية بأعماله القصصية المشهورة :(الإنذار الممزق)، (الأجراس الصامتة)، (يا أهل هذا الجبل)، (الناب الأزرق)، (وأعمال أخرى) لم تر النور بعد مثل : (مبادئ لا تباع)، (أبيع الفل يا شادي)، (رسائل إلى من يهمه الأمر).
فالقاص أحمـد محفوظ عمـــر الذي كتب القصة بمـــداد قلبه لا يريد شيئـــاً ســــوى الإنصاف، فهو أمي في لغة المجاملة لا يجيد سنة السجود والركوع لأصنام الثقافة وأهل القرار ولا يلبي إلا صوت ضميره، وأزيد بالقول أنه رجل بسيط ومتواضع، وتواضعه مشبع بالكبرياء، وقد لا يعرف الكثير من الناس أن القاص أحمد يمارس الرياضة بشكل يومي ومشغوف برياضة المشي ولا يجد سلواه إلا في القراءة والكتابة والرياضة، والغوص في مفردات الحياة اليومية للبشر العاديين، ومخالطة الناس في الشوارع والأزقة والأسواق والمقاهي، ويعــد من أفاضل كُتّاب القصة، أفنى زهرة حياته في محراب الإبداع القصصــي ومنح الأرصفة والطرقات والشوارع والشواطئ في مدينة عدن نكهة خاصة بتجواله الشغوف الممزوج بالتسلية والرياضة والخيال المتواكب بتفكير أخرس يقطر عذوبة ورقة، ومنحته هذه المدينة الشاطئية الإلهام والزخم والحيوية والجمال، وعندما يتوغل بقدميه في أزقتها ودروبها يشعر بالدهشة والطمأنينة والرضوان في صميم روحه، وتنطبع هذه المدينة بتفاصيلها في ذاكرته كالوشم، إنه يمشي وفي رأسه تتجمع المشاهد والصور والحبكة القصصية واللقطات الفنية والإبداعية، يمشي وتمشي في دورته الدموية القصة وهندستها وأحداثها وجمال رونقها ولغتها الشعرية والأسلوب اللغوي والوجداني والبلاغة التعبيرية.
إنه بارع في لغته القصصية الخالية من الحشو، والمفعمة بجمال الوصف ودهشة المفاجأة والانتقال الرشيق بخفة متناهية في الأزمنة والأمكنة، كما ينتقل في تجواله اللذيذ من شارع إلى شارع، ومن زقاق إلى زقاق، ومن ساحة إلى ساحة، ومن ضفة إلى أخرى بعدسة فنية صادقة تجيــد تنويع المشاهد والصور في لوحة فنية رائعة، وبتكنيــك قصصي، وبحشد لغوي وعاطفي وجمالي جــذاب.
إنه صادق يعكس بفــن تفاصيل الحياة اليومية لحظة بلحظة، ويكشف الأغطية عن دماملنا فهو يقول : "أنا صادق في طرح أحاسيسي وفي أعمالي القصصية، ولا توجد أي قصة من قصصي تبرز عكس ما أضمر، فهي إحساس عميق ذاتي مقدس، أبوح عبرها بما لم أستطع أن أقوله علناً، إنني أشعر أن من أهم نجاح القصة توفر عنصر الصــدق فيها، ... القصة التي لا تؤثر في القارئ بلا شك قد تفتقر إلى هذا العنصر الهام" (2).
وكغيره من المبدعين يعاني من مضض روحي واكتئاب عميق، لأن الاكتئاب شرط ضروري للإبداع، حسب قول الناقدة العالمية (جوليا كريستيفا) (3).
فهو ليس سعيداً، شأنه شأن الروائي العالمي البرازيلي (باولوكويليو) الذي قال : "إني مبتهج ولست سعيداً"(4).
إن أكثر ما يوجع روحــي الصــمت الذي يقتل المبدعين، والتجاهل المخيف للقامات الإبداعية التي تسبح في دهاليز التهميش، وعندما يموتون تسيح الدمع في الخــدود، وتكثر كلمات العزاء المبللة بالدمع، وتبادر جميع الأطراف والجهات بمسمياتها المتنوعة لرفع شأن المبدعين وذكر مناقبهم وتكريمهم مادياً ومعنوياً، وتقام مجالس العزاء على أرواحهم وتتحرك الأقلام الراقدة وعدسات التصوير لنقل المشاهد وشحن العواطف ونثر الذكريات والتذكير بالخصال الفنية والإبداعية والإنسانية للمبدعين، وتنهال عليهم الهبات والشهادات والنياشين وهم تحت التراب .
* الهــوامش *
1- جهاد فاضل، (أول الطريق إلى الأدب)، العربي (الكويت)، العدد 600، ( نوفمبر 2008م)، ص 210 .
2- حوار مع القاص أحمد محفوظ عمر، مجلة الكتاب (صنعاء)، العــــدد 3-4 ، (2006م), ص 83 .
3- حوار مع (جوليا كرستيفا)، نزوى (عُــمان)، العدد 55 (يويو 2008م)، ص 111 .
4- حوار مع باولو كويليو، العربي، العدد 563، (أكتوبر 2005م) ص 107.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى