مات وفي قلبه غصة الجنوب

> عز الدين سعيد الأصبحي

>
هشام باشراحيل
هشام باشراحيل
رحيل هشام باشراحيل في هذه اللحظة يتجاوز غياب قامة وطنية وإعلامية يمنية كبيرة.. إنه يختصر معاناة شعب وقضية.
دعونا نبدأ الحكاية ليس مما اعتدنا فيه أن نذكر خصال الراحل الكبير الإيجابية وهي كثيرة، ولكن من حيث قلب الحكاية وقلب الألم.
إنها حكاية اضطهاد شعب وليس شخصا فقط.. هشام باشراحيل من الجيل الذي فتح عينيه في كنف والده إعلاميا، يرون عدن ليس مجرد مدينة حاضرة الجنوب والشمال، ولكن عدن المعطى الثقافي والحضاري الذي يتجاوز الجغرافيا ويكون بين مدن قلة هي أكبر من بلدانها التي تقع فيها نفسها، ناهيك عن أي انتماء آخر.. عدن ـ مثل القاهرة أو بيروت ـ مدينة تتجاوز الحلقات الضيقة إلى رحابة الانتماء إلى العصر.
هناك مدن معاصرة تأخذ من الحداثة والتطور ما يلائمها لتكون عاصمة كبيرة، ولكن ليست مدنا عصرية وهذه منها كثير.. وهناك مدن عصرية، أي تنتمي إلى العصر ثقافة ونظاما وسلوكا، ومن هذه المدن عدن كما هي بيروت أو القاهرة أو دمشق.. والأخرى مجرد تكتلات إسمنتية لقبائل ترتدي الكرافتات والبدلات الحديثة لا أكثر.
عندما ترك هشام عدن كان لا يزال يؤمن أنه عائد لوطن أجمل يتسع للجميع، ولكن صنعاء ليست كريمة مع زائريها مثل عدن، وبقي هشام (وأنا أزعم أني أعرف معاناة الذين قدموا من الجنوب إلى الشمال أيام التشطير وعرفت نعيم الذين أتوا من الشمال إلى الجنوب).. بقي هشام يعاني أنه جنوبي في اليمن الشمالي، دون أن يذكر ذلك طبعا، ولكن جميعا نعرف ذلك دون أن نملك شجاعة الاعتراف، ولابد من قول الحقائق الآن لنتطهر ونبني نفوسا سليمة.
جاءت الوحدة وإذا بنا نضيع بين المفهومين، عدن يراد لها أن تكون تعز أخرى لا أكثر، مجرد ذاكرة جميلة واضطهاد مستمر وتكريم إعلامي لا يزيد.. وصنعاء تنكرنا بقسوة عجيبة.
ففر هشام بمشروعه الكبير، إحياء صحيفة “الأيام” إلى عدن، ومن هناك قاتل ليعيد للمدينة بريقها، بخطوة تقول إننا يمكن أن ننجح بعيدا عن وهم المركز والعاصمة.. وأن العواصم ليست التي يسكنها الرئيس والحكومة بل تلك التي تنتمي إلى العصر وتكرم عاشقيها ولا تسألهم (من أين أصلك يا أخ؟!).
ولكن كان على هشام أن يدفع الثمن ثانية لأنه كسر القاعدة التي يراد لها أن تكون راسخة.. ولكن الرجل الموهوب بالقيادة وإدارة المؤسسة الإعلامية نجح في إعادة ترتيب أوراقه بشكل سليم وخلقَ منبرا وطنيا شجاعا لا يتنكر لليمن ولكن يعلي من شأن عدن ويعيد الاعتبار للجنوب الذي لم يجرؤ بعد ـ آنذاك ـ أن يتذكره أحد كما يجب.
وأنا واحد من الذين وجدوا بصحيفة “الأيام” منبرا يحميه عندما احتجنا لصوت مسموع ومستقل وشجاع، لأن هشام أدرك أن وهم القتال بسبب الإيديولوجيا ليس صحيحا وأن عدن أحق بروح العصر وإعادة ترتيب الأوراق.. لهذا كانت “الأيام” صوت الكل، من حراك غاضب على الوحدة إلى وحدويين غاضبين على النظام، إلى يسار ثائر ويمين معارض.
نجحت “الأيام” بالمعادلة الصعبة وبما فشلت فيه الأحزاب، وأعاد الباشراحيل لعدن وهجها، فكان الغضب السلطوي عليه الذي تترجم إلى سجن ومحاكمات وإغلاقات وملاحقات.. هشام باع بيته بصنعاء وعاد إلى عدن بقوة لأنه مؤمن أن غلطة الخروج عن المدينة كان خروجا عن العصر ولا يجب أن يتكرر، وأدرك المعادلة الصعبة التي دوما ما كررتها وسبق أن كتبتها عنده وفي ندواته أن جنوبا متعافيا يعني يمنا متعافيا، بل وخليجا عربيا متعافيا ومنطقة متعافية وعدن حاضرة العصر وليست مجرد مدينة من غبار وجبال، بل هي معطى حضاري يتجاوز غبار القبائل ووحشة الجغرافيا.. لهذا دفع (الباشراحيل) ثمن الموقف الصعب.
تلك باختصار الحكاية المسكوت عنها والتي يجب أن نقولها إنصافا للحقيقة والرجل.. إنه مات وفي قلبه غصة الجنوب وقهر لا يطاق من أعداء النجاح.
تلك الغصة التي تقول باختصار إنه إذا أردنا وطنا معافى فلن يكون إلا من حيث ريح العصر من عدن بسموها وتساميها.. ما عدا ذلك هو عبث ضد طبيعة الأشياء.. ولقد نجح هشام وأثبت من خلال «الأيام» صحة ذلك، وأكد أن سهم التغيير قد نفذ ولابد أن يصل.
وإنصاف هشام باشراحيل يتجاوز مجرد تعويضه عن الجريدة والتوقيف إلى إنصاف مشروع الحداثة وعدن.
تلك هي الحكاية يا هشام ويا تمام.. حاولت أن اتصل بصديقي باشراحيل هشام باشرحيل لأقول له فقدت أنا أخا كبيرا مثلما فقدت أنت أبا فذا.. فإذا بي غصة تتملك علي قلبي.. يا باشراحيل هي غصة قهر وطن وقضية!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى