ذات عدن .. ذات زمن8

> أ. محمد عمر بحاح

> من بين كل الرحلات إلى عدن، أُفضِّل الرحلات البحرية منذ جئتها أول مرة عبر البحر ذهب بعقلي فرح المجيء من لم ير ميناء عدن - التواهي من البحر فلم ير عدن لا يوجد منظر أجمل منها وأنت تدخلها في الصباح الباكر، والأضواء تتسلق الجبال والبيوت، وآلاف النجوم ترصعها بألوان الذهب وتوشيها بشاردات الفضة أدمنت سفر السفن الشراعية منذ كنت في الثامنة من عمري ورثت هذا العشق من أبي، ومن نواخذة وبحارة بلدتي الديس الشرقية ومن قباطنة الحامي وربانة الشحر أصبحت الساريات علامة زهوي وصهوة أحلامي.
أ. محمد عمر بحاح
أ. محمد عمر بحاح

الساعية التي ركبتها من ميناء القرن، وصلت التواهي بعد ثلاثة أيام، مبحرة بين أزرقين، البحر والسماء عندما أشرفت على الميناء، كانت أنوار الصباح الأولى تقضم جيوش الظلام، وساحرة تسرح شعرها في الهواء الطلق، وتنقع رجليها في مياه الخليج، وأصوات نوارس ترافقنا في ألفة ومحبة.
هذه السفن كائن أسطوري، كائن جمالي، بصوار، وحبال، وأشرعة، وبوز ممتد إلى الأمام، وأصوات تصدرها كأنها بصمة توقيع دخولها إلى الميناء لاشيء أجمل للبحارة والمسافرين من رؤية الموانيء بعد أيام وليال طويلة في لجة البحر كانت السفينة التي أقلتنا من القرن، القريب من بحر شرمة، حيث تحيا واحدة من أندر السلاحف البحرية في العالم، تدخل ميناء التواهي، بوابة عدن البحرية مذاق البحر المتداخل مع حواس الجبل، وكنت كعادتي ملتبساً بفرحة المجيء كنت العائد إلى روحه بعد غياب، كأني غادرت الزمان ولم أغادر المكان.
قباطنة وبحارة السفن يعرفون الموانيء، أكثر من أهلها، حتى وان لا يمكثون فيها إلا بضعة أيام والموانيء تعرف نفسها أكثر من الجميع وعدن تعرف تاريخها ذاتها أكثر من أي أحد في الدنيا، منذ كان تتنافس عليها القوى الكبرى والصغرى، للسيطرة على موقعها الاستراتيجي، وعلى تجارة العالم.
(2)
بريطانيا التي أدركت أهمية عدن الاستراتيجية بين الشرق والغرب منذ وقت مبكر حسمت الصراع العالمي للسيطرة عليها، باحتلالها لعدن في 19 يناير1839م لم تكن تحتاج إلى عذر أقبح من ذنب، لتقوم باحتلالها التاريخي لعدن كل خطواتها اللاحقة، كانت تشير أنها ستبقى فيها أطول فترة ممكنة من الزمن، وقد طالت أكثر مما ينبغي..
طال حوالي 129 عاما كاملة وما أن تحققت لها السيطرة وأخمدت المقاومات الشعبية، حتى شرعت في الانتقال التدريجي من الميناء القديم في كريتر، إلى مينائي التواهي والمعلا، بدءا من عام1847م، وفي العام التالي أنشأت خدمة إرشاد السفن، بعد عامين فقط1850، أعلنت تحويل ميناء عدن إلى منطقة حرة وبهذا تكون عدن من أقدم المناطق الحرة في الشرق الأوسط والعالم كان الميناء ينمو، وحركة السفن ونقل البضائع تزداد، فبنيت دكة المعلا في سنة 1855، مما ساعد على توسع النشاط التجاري في نفس العام وصلت أول سفينة أمريكية إلى الميناء، وعد هذا اعترافا بالمكانة العالمية لميناء عدن الذي سيغدو عما قريب ثاني ميناء في العالم في العام 1862 تحول جمرك عدن إلى مبناه الجديد في المعلا – دكة وبدأت عمليات تعميق الميناء سنة 1891 واستكملت في 1930.
وسفينتنا تقترب من عدن في ساعات الفجر الأولى كنا نرى أضواء فنار السفن فوق راس معاشيق الذي أنشيء سنة 1867 لتحذير السفن حتى تبتعد ولا ترتطم بالصخور، وما إن التفت سفينتنا مسافة حتى كانت أضواء فنار خليج الفيل في الساحل الذهبي، تؤشر لنا هي الأخرى بالابتعاد عن الصخور والدخول الآمن إلى الميناء، وهذا الفنار الذي لا يزال قائما بني عام 1911، فيما تم افتتاح الرصيف السياحي والبوابة الرئيسة لاستقبال السياح الوافدين إلى عدن عبر البحر سنة 1919م.

على غير المرات الأولى، التي جئت إلى عدن عبر البحر، لم أرَ في الميناء الذي كان يعج بالبواخر والسفن، من كل الجنسيات سوى عدد قليل منها لقد أصيب الميناء بضربة قاصمة بسبب إغلاق قناة السويس بعد هزيمة يونيو 1967، وهو الذي تعززت مكانته وأهميته الاستراتيجية بعد افتتاح القناة في 17 نوفمبر 1867م، أي قبل قرن كامل، وكأن التاريخ يكرر نفسه على شكل ملهاة لقد تحولت زحمة السفن التي بلغ عددها نحو 5000 سفينة في العام منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين، أي منذ تأسيس شركة مصافي عدن إلى عشرات السفن، وأرصفة الميناء إلى الكساد التدريجي، وكان هذا لا يبشر بالخير للدولة الوليدة التي فقدت لتوها الدخل الذي كانت توفره القاعدة البريطانية، بالإضافة إلى تخلي بريطانيا عن التزاماتها المالية التي قطعتها لوفد مباحثات جنيف للاستقلال.
(3)
مرات قليلة في السابق، تعرضت عدن وميناؤها لمثل هذه الانتكاسة، الأولى، خلال سنوات الحرب العالمية الأولى حيث عانت من شحة في توريد البضائع، والملابس، والمواد الغذائية، مما اضطر السلطات إلى العمل بنظام البطاقة التموينية، لتوزيع السلع، الأمر الذي أنعش تجارة التهريب !
والمرة الثانية، بين عامي 1929 - 1930 حيث تأثرت عدن بالأزمة الاقتصادية العالمية، وعانت خلال الخمس سنوات اللاحقة من الركود الاقتصادي وتدهور التبادل التجاري وانخفضت تجارتها بنسبة 60 %.
وفي الفترة بين عامي 1940 – 1945 دخلت عدن في منطقة الصراع العالمي بعد إعلان إيطاليا دخولها الحرب العالمية الثانية، كحليف للألمان، وتعرضت المدينة للقصف الجوي من سلاح الجو الايطالي، واضطر الكثير من الأهالي النزوح إلى لحج
(4)
أنا الطفل المسحور، المفتون بها أبدا، عدت جميلة عدن من البحر، كان هواء البحر يعابث شعري ومعوزي كل من يشرب ماءها، يذق طعامها، يسبح في بحرها، يتمرغ في رمالها يحبها ويقتل عمره من أجلها الانجليز الذين حكموها 129 عاما تقريبا أخذوا أساطيلهم، علمهم عيونهم الزرقاء ورحلوا من إذاعة عدن يعزف السلام الجمهوري …وتتوالى أناشيد الاستقلال، وأكثر من أي شيء آخر أغاني أحمد قاسم ومحمد محسن عطروش(كل الشعب قومية) (أنا قومي بن قومي (جدران البيوت والأسوار تصير غابة لشخبطات حمراء، وكلام يوسع من ظلال الحرب الأهلية التي عبثت بالوحدة الوطنية بعد ان كان الثوار يحاربون الاحتلال جنبا لجنب، وكتفا لكتف.
 صيرة
صيرة

حاملا سبع سنوات من الغياب عدت دخلت المدينة طورا آخر صار لها علم ونشيد ورئيس جمهورية وحكومة غدت عاصمة لجمهورية تمتد من المهرة إلى باب المندب، ويعترف بها العالم، ولها سفارات ومندوبون في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة شعارها الفقر الفاتن، ولها أصدقاء هناك في موسكو وبكين وبيونج يانج، أما الأقربون فأعداء الحرية والاستقلال تبدلت الأدوار، ذوو العيون السود، والعرق الأسمر، سكنوا في الفيلات، البيوت، الشقق، في خور مكسر، والمعلا والتواهي، والبريقة، ومدينة الشعب، حيث كان يسكن ذوو العيون الزرقاء، والبشرة البيضاء المصاعد توقفت في عمارات الشارع الرئيس في المعلا … درة شوارع الجزيرة والخليج، صارت بين ليلة وضحاها مكبات للزبالة والشرفات التي كان تطل منها الشقراوات، تطل منها رؤوس أغنام وحبال غسيل.
في الشابات، ومحلات الملابس والأقمشة ومستودعات البضائع، لاتزال بقايا من كل شيء، لكن كلما عدت السنين يقل المخزون والمستورد، وتنحدر نحو الانقراض والتلاشي.
(5)
أنا طفل المكتبات، ربيب أكشاك الصحف والمجلات، سوسة القراءة التي ورثتها من أخي محفوظ، من سيقنعني عندما ذهبت أبحث عن صحيفة بأن كل تلك الصحف، المجلات اليومية، والأسبوعية، والمجلات الشهرية وحتى النصف الشهرية قد أغلقت جميعا… منعت من الصدور.
كانت هذه أول مذبحة بحق حرية الصحافة لا أدري من أشار على صاحب القرار بإغلاق الصحف، مصادرة المطابع، والحجر على الرأي والضيق بصاحب الرأي الآخر ! لم يعد مسموحا في البلاد إلا صوت واحد حزب واحد رأي واحد، وجاء وقت كاد الناس يلبسون نفس ألوان القميص الواحد ! كانت جدتي الحكيمة رحمها الله تقول:الحشرة التي لا تجد حشرة تأكلها تأكل نفسها !!
تلك البداية، كانت تشير إلى أن الحكومة هي صاحبة الصحف، وغير مسموح لسواها بامتلاك أو إصدار الصحف، وبعد فترة أخرى صار استيراد الصحف والمجلات وحتى الكتب، حكراً عليها وحدها، وألغت تراخيص المستوردين، والتحق من رغب منهم موظفين لدى مؤسسة 14 أكتوبر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان !! المملوكة للحكومة.
هكذا وبجرة قلم، وقرار صيغ على عجل، بدون دراسة أبعاده ونتائجه المدمرة على الحريات، اختفت صحف عمرها عقود من الوجود صحف لها مكان، تاريخ، صولات، وجولات، وبصمة، وأسهمت في تطور الحياة السياسية والثقافية والفنية في عدن وحركة التنوير في المحيط كله المشهد الداخلي بدون أن تكون على طاولة القراءة «الأيام»، وفتاة الجزيرة، واليقظة، والنهضة، والطريق، وصوت الجنوب، والصباح، والعدني، وفتاة شمسان، وأنغام، وغيرها من الصحف والمجلات التي تصدرها عدن، يتحول إلى صحيفة يتيمة، خبر وحيد، ورأي واحد !! وصحيفة وحيدة، وربما اثنتان بالكاد تقرأ.
لدهشتي، كيف كانت نفس المدينة تتسع لكل تلك الصحف؟ كل تلك الأقلام، الآراء، الأفكار، الأحزاب، تتناقش، تتصارع بحرية، ومحبة ولا يضيق أحدهم بالآخر، ناهيك أن يقتله ؟!
عندما يبحث ذلك الطفل الذي صار فتى عن عمل، لا يجد سوى تلك الصحيفة الوحيدة، يكتب فيها ويقرأها، لكن قلبه مفتوح على ذلك البحر الشاسع البحر الذي يأتي إلى عدن ولا تذهب إليه !!
وللحديث بقية...
عن موقع "صوت عدن"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى