ذات عدن.. ذات زمن 10-11

> محمد عمر بحاح

> (1)
كتبت لي فتاة رمزت إلى اسمها بـ(ف . ع) بأنها تتابع بشغف وإعجاب كل ما كتبته من مقالات حول عدن أولا بأول فور نشرها في موقع (صوت عدن)، ولا تكتفي بذلك، بل تقرأه في جريدة “الأيام” أيضا.. ولا تقرأها مرة واحدة، بل عدة مرات، وتجد راحة ومتعة وفائدة عند كل قراءة.
وقالت الفتاة: “إن المهم في تلك الكتابة ليست فقط أنها تستنطق ذاكرة المدينة عدن، المتعبة، والمثقلة بعقود من الألم والحزن، والأفعال المسيئة، وأجنحة الظلام، والحروب، والوحشة.. بل في تذكير الناس بجمالها، وألقها، ورونقها، وبهائها، والتاريخ الطويل الذي قطعته وعاشته حتى صارت واحدة من أجمل وأبهى مدن الدنيا..”. وهناك في الأخير ذلك الشيء الذي لا تقوله مباشرة، بل تنطق به خلف السطور، ألا وهو إن عدن هي روحكم، ولاتستحق منكم أن تسيئوا إليها، وأن تقتلوا النهار في عينيها!”.
محمد عمر بحاح
محمد عمر بحاح

عزيزتي (ف . ع) إن كانت تلك قراءتك لـ(ذات عدن.. ذات زمن) فإني أعتبر رسالتي التي أردتها قد وصلت بأدق ما يكون، وإني قد حصلت على الجائزة التي كنت أطمح إليها من كتابة هذه المقالات.. وهي أن تصل إلى الجيل الذي سُرق حلمه.. ودفع الثمن أكثر من غيره، ولا أريده أن يفقد الأمل، أو يتوقف عن النضال مهما كانت الصعاب، أو تبدو الطريق بعيدة، فكل خطوة يمشيها إلى الأمام تختصر من المسافة، وتقرِّب ساعة الوصول.
(2)
نحن يا عزيزتي، من بتاريخنا الدموي، اغتلنا أحلامنا وأحلامكم .. فصار متعذرا علينا أن نرفع رؤوسنا من بين كتفينا، والنظر في عيونكم!.
نحن يا عزيزتي، من يحمل صخرة الخطيئة الأولى، والخطايا اللاحقة، ولا نستطيع السير بها، ولا إسقاطها أرضا..!.
ونحن الذين لكثر ما تعثرنا، سقطاتنا لا تحصى، ورؤوسنا كفت عن التفكير..!.
ونحن تاريخ الألم، تاريخ الخيبات المستمرة، تاريخ الآمال المغدورة، وتاريخ الخسارات
والخسران المبين.
فإياكم أن تتبعوا إلا ما صلح من خطانا، وإن استطعتم أن تسامحونا بعد كل الذي فعلناه بكم، وكنا نظن أنا نفعل خيرا لكم، فذلك كرم لا نستحقه منكم!!.
(3)
أما قراءة الصديق الأديب، أديب قاسم لنصي فقراءة تذوقية، تكشف سر حبه لي، وتعلقه بي، وبكتاباتي، وهو عشق عمره من عمر صداقتنا، التي تربو على نصف قرن، وهي علاقة تبادلية، فأنا الآخر أكن له نفس الحب على الصعيد الشخصي والإنساني، وذات التقدير لإبداعه، فهو أديب، وكاتب مبدع، يكتب الشعر والقصة والرواية والمسرحية، وله باع طويل في أدب الأطفال.
ومن مؤلفاته: النمر الأرقط والكلاب (رواية) ورواية (حكومة الأطفال) ومسرحية (الثعلب المكار) والعديد من القصص القصيرة والدراسات النقدية.
وغير حبنا للأدب، للشعر، والرواية، والصحافة، فنحن نتنافس على حب عدن إلى درجة الوله، العشق، الغرام، الجنون، ما من شيء، ما من مدينة تستحق أن يحبها المرء إلى درجة الجنون.. هذه الحالة الوحيدة التي يساوي فيها العقل الجنون.. أقصد حب عدن.
وعلى مدى تجربتي الثرية في القراءة لم أعثر على مولع بالكتابة للأطفال، قدر اهتمام أديب قاسم بهم، إنه حب وعشق أبدي بالأطفال لا يوازيه إلا حبه للقراءة والكتابة. سنة 1960م كتب لهم أغنية قفز الحبل، وسنة 1962 كتب لهم أغنية عيد الهنا، وسنة 1969 أغنية الدرهانة من ألحان الفنان حسن فقيه وأداء إيمان سندي. والأخيرة سجلت لإذاعة وتلفزيون عدن، بينما سجلت الأوليتان للإذاعة. وقدم لمسرح العرائس: الثعلب المكار، والأرنب والسلحفاة. وصدر له عن دار عبادي بالاشتراك مع اتحاد الأدباء والكتاب سنة 1994 (مزرعة القمر) وهي سلسلة محاضرات ألقاها المؤلف ومقالات نشرها عن أدب الأطفال. كما صدرت له في نفس العام عن مركز الشرعبي للطباعة والنشر في صنعاء، دراسة في أصل الظاهرات الشعرية الغنائية عند الأطفال العرب. وكانت قد صدرت له عن دار الهمداني بعدن سنة 1984 مسرحية الثعلب المكار، هكذا يسير قطار النمل، الأقزام العمالقة، الظلام يضيء بما فيه الكفاية. وبالتوازي صدرت له مجموعة قصصية عن دار الجليل ـ دمشق سنة 1986 بعنوان: ارجعي.. ارجعي يا سلمى. والعجوز الذي قال وداعا، في نفس العام عن دار منار في بيروت.
وقدم له الكاتب والروائي الفلسطيني الكبير يحيى يخلف صاحب رواية (نجران تحت الصفر) والعديد من الروايات.
(4)
بعث لي صديقي أديب قاسم إضافات قيمة على مقالي السابق (ذات عدن.. ذات زمن) وأثبتها هنا كما وصلتني منه:
إلى ذلك: كان لليهود كنيس في الشيخ عثمان وحارة تدعى حافة اليهود.
- أول ما دخل السيد الولي العيدروس عدن انطلقت أغنية الأطفال: يا مطيرة صبي لبن لبن
يا مطيرة العيدروس دخل عدن.
وتبارك به الأهالي وكانت عبارتهم المشهورة: يا عيدروس يا بو سالم
يا عيدروس.. جيب الفلوس.
- أسس شركة الملح العدنية ADEN SALT WARKS السيد بيرجيللا بموجب امتياز رسمي لمدة 99 سنة.
- اعتبرت عدن بوتقة مواطنة عالمية
Cosmopolitan Society
- وصفت عدن بـ «أم المسكين» حيث الإنسان لا يموت فيها جائعا.. بل شملها الوصف في أنها: أم الدنيا.
- من صناع ازدهار عدن: التاجر الهندي حاج لالا.. عرفت معامل الملح الأخرى التي أنشأها باسم «الحجلالا» Aaden and Indo Salt Works شركة الملح العدنية الهندية.
(5)
والمعاناة درجة من درجات الحب، فلا يمكن تقبل الحب، دون أن تصاحبه درجة من الألم تجعلنا جديرين بذلك الحب، الزميلة الإعلامية نادرة عبدالقدوس، رغم ألم فقدها للسيدة العظيمة والدتها قبل عدة أيام فقط، وجدت الفرصة لتعبر عن رأيها في حلقة الأسبوع الماضي، وبقدر ما أعربت عن حبها العميق لمدينتها عدن، بقدر ما عبرت عن قلقها وخوفها عليها.
كتبت تقول: تدهشنا عدن، ونشتاق إليها ونحن بين أحضانها، لأن ما يحدث لها مثل الذي يحدث لليتيم الذي فقد البوصلة بعد فقد والديه ومحبيه! ولم تنسَ أن تصرخ بألم: عدن تضيع.
ولا يخفى أن ألم زميلتي نادرة مضاعف مرتين، مرة لأنها فقدت للتو أمها الحنون، تلك السيدة الطيبة التي أحبها كل من عرفها وحزن لموتها.. وفقد الأم لا يعوضه أي شيء في الدنيا، ومرة لأن ألمها وحزنها على فقد والدتها يتداخل مع ألمها على أوضاع مدينتها عدن. ولأنها ابنة عدن وتشابكت حياتها مع حياتها منذ الميلاد والطفولة والصبا والشباب وعنفوان النضج والحب والزواج والأسرة، والإنجاب والأمومة، والدراسة، والعمل في الصحافة حتى وصلت أعلى المراتب، رئيس مجلس إدارة ومدير عام مؤسسة 14 أكتوبر، وهو منصب لم تصله امرأة من قبل في عدن واليمن.
يكفي ألم الحزن على وفاة الأم أيا نادرة.. فكيف لك ولنا بحزن آخر؟!!.
(6)
ما بين قراءة (ذات عدن) وزفرات سالم بلحمر تكون الإجابة على السؤال: بأن قراءة الشاعر لما وراء السطور هي السلطة المهيمنة على النص، وهي المنطق الذي استدعى الحشرجة ولا تعارض بين وعي القارئ وذاكرة النص، وهذا ما يستدعي منه أن يقرأ النص ليس بمفرده بل لأسرته بصوت عال.
حتى وإن تحملوا سطوة قساوته التي بين السطور، لأن القارئ أو المستمع اللبيب سترحل روحه من الزمن الماضي إلى الحاضر، وسيرى كم أن هذا المكان قد تخلف كثيرا جدا عما كان عليه، وما عليه إلا أن يستاء ويتألم ويحزن!.
وبتلك المشاكسة التي كانت له أيام طفولته وصباه الجميل، والتي لا يريد أن يتخلى عنها مثلي، يشاكسني من البعد، ومن داخل القلب زميل دراستي نجيب بكير: أنت لست قاصا فحسب، بل مؤرخ أيضا!.
لا يا صديقي نجيب، ولكنها حقيقة الأمانة العلمية، هي التي ترغمني على الاهتمام بالوقائع والأحداث والأرقام، وأنا أعلم الناس كم هي مدعاة للملل حتى لو كانت بقوة ألف حصان!!.
وزميلي عبدالله بن أحمد يحفزني على جمع هذه السلسلة كما يسميها، ونشرها في كتاب، لكن هذا ليس رجاءه ققط، بل له ملاحظة في غاية الدقة والأهمية، وإن كان يسوقها في منتهي الرقة واللطف، وهي الأخذ بعين الاعتبار، مراجع التواريخ والأرقام!.
ويتفق معه الدكتور علي نعمان المصفري في جمع هذه المواضيع في كتاب، الحقيقة أن الفكرة مغرية، فالحروف، والكلمات، والجمل، والمواضيع تعشق أن تجمع في مكان واحد، مثلما تعشق الأمطار النافذة، كل الكتب تبدأ بجملة واحدة !!.
والدكتورة الدبلوماسية الباحثة العلمية الزميلة الرائعة خديجة الماوري بعد أن قرأت (ذات عدن.. ذات زمن) تتفق معهما وتقول هذا كتاب كامل عليك بنشره وعمل حفل توقيع في زاوية الصاوي بالقاهرة. والزاوية هي باسم الأديب المصري المعروف عبد المنعم الصاوي، وتقع في الزمالك، أما الدكتورة خديجة الماوري فشغلت عدة مناصب، منها أستاذة علوم إدارية بجامعة الحديدة، باحثة بمركز الدراسات السياسية بجامعة صنعاء، مندوب دائم مساعد للجمهورية اليمنية لدى المنظمة العربية للثقافة والعلوم بتونس، ومستشارة ثقافية لليمن في سفارتيها بتونس وسورية.
(7)
كان أبي، رحمه الله، ذلك الرجل الطيب الذي لا يقطع فرضا، يبدأ يومه بصلاة الفجر، وتلاوة ما تيسر له من القرآن الكريم، ويفتتح رزقه بتبخير دكانه الصغير، ورش الماء أمامه، على تصالح مع الله ومع نفسه، ولسنوات طويلة ظل هذا صباحه الدائم، الذي يحافظ عليه ولا يغيره.
كان أبي عابدا على طريقته الوسطية، شأنه شأن الحضارم، بل شأن الناس في عدن، يذهب إلى السينما ويأخذنا مرة في الأسبوع، ويدخن، ويلعب الورق، ولكنه لا يقامر، ويلبي دعوات أصدقائه بصرف النظر عن جنسياتهم، ودياناتهم، وكان منطقه منطق القرآن: “لكم دينكم ولي دين”. ويتعامل معهم تجاريا ما لم تكن تجارة عن ربا، وكان يذهب إلى زيارات أولياء الله الصالحين، خاصة زيارة العيدروس في كريتر، الهاشمي بالشيخ عثمان، الغدير في البريقة، وأبو سفيان في لحج، ويأخذنا معه.
(8)
كان يوم الزيارة يوما مميزا جدا، بنسبة لطفل في عمري، والأمر كان كذلك لأخوتي الأصغر مني، كان يعني الفرح، المحفل، الألعاب، الدراهين، الأسواق، الحلوى، البالونات (الزماميط) الأعلام، الألوان، نوعا من أنواع صناعة الفرح حتى وإن كان له مغزى ديني لا ندركه نحن الصغار!
بالنسبة لأبي، ولمن هم في عمره، أو أدراكه، الزيارة جولة في المكان (الضريح) والروح معا، يدخل مسجد العيدروس فيصلي ركعتين، ونفعل مثله، ثم يقف أمام ضريح الولي فيتلو الفاتحة على روحه، ونقلده، ويدخل يده في فتحة صغيرة داخل الضريح ويخرجها وفي قبضته حفنة تراب له رائحة الصندل، يشمها ويشممها لنا، ثم يصر لكل منا حفنة منها في خرقة ملونة من تلك الأعلام التي على الضريح، وتربطها لنا أمي على معصم كل واحد منا، وتظل مربوطة هناك حتى تبلى ولا يعود لها لون، أما حفنة التراب تكون قد ذابت مع أول استحمام!!.
(9)
أينما سرت في عدن، فأنت ترفل في رحاب التاريخ، في عالم من الروحانيات، العفة، والمعجزات التي صنعها رجال استطاعوا بفضل قربهم من الله، وأعمالهم الصالحات أن يرتفعوا من عالم الماديات الصغير والضيق إلى رحاب الفضاء الواسع والسرمدي. والمدهش أنهم لم يبلغوا هذه الدرجة من الرفعة والسمو إلا بعد أن انتقلوا من الحياة إلى الموت ودنيا الخلود.
تسير في شوارع، وحارات المدينة القديمة - عدن - كريتر، فتطالعك مساجد بأسماء رجال صالحين، صارت أجسادهم من غبار السنين، لكن أرواحهم تشرق وتتقمص روح المكان والزمان.
إذا مشيت في شارع أبان، وارتفع صوت الأذان فلن تقاوم أن تدلف إلى مسجد أبان، لأداء الصلاة، وأنت متشبع بروح المكان، فأنت تصلي في رحاب أقدم مساجد عدن، بناه الحكم بن عفان بن عثمان بن عفان، الذي كان حاكما لعدن في القرن الأول الهجري، وقد أسماه باسم أبيه أبان بن عفان، وقد دفن الحكم وابنه إبراهيم شمال المحراب. عام 1929م قام الشيخ سالم باشنفر بتوسيع وتجديد عمارة المسجد، وآل باشنفر من البيوت التجارية المعروفة في عدن، ومن أصول حضرمية.
الصلاة في مسجد واحد لا تكفي، لمن كانت روحه تواقة للأعماق الروحية، المساجد في المدينة كثيرة، وتحت بساط كل واحد منها تاريخ ومباهج روح، أنت الآن في شارع الجوهري، والوقت وقت صلاة، وأمامك مسجد جوهر، الذي أسسه جوهر بن عبدالله العدني الصوفي في العام الثامن الهجري، وكان يدرس الفقه في حلقات المسجد، وتخرج على يديه العديد من فقهاء المساجد في عدن، ودفن في المقبرة إلى جانب المسجد كثير من مشاهير المدينة وعلمائها.
أما إذا أدركتك الصلاة، وأنت في شارع الزعفران، حيث تنشط التجارة ومباهج الحياة لاتتوقف، فأمامك مسجد الشيخ حامد لتؤدي فرضك في رحابه، وقد أسسه الشيخ حامد بن عبدالله بن علي في القرن العاشر الهجري، وتمت توسعته وتجديده ثلاث مرات.
وإذا توغلت في الحارات العتيقة والشهيرة في كريتر، مثل حافة القاضي، فلا تفوتك الصلاة في مسجد بانصير، الذي بناه في القرن الرابع عشر الهجري الفاضل عوض بكران بانصير، أو في حافة حسين فبوسعك أداء الصلاة في مسجد المهدلي، أما إذا كنت في شارع الملك سليمان، وكنت تقوم بمعاملة مالية في بنك من البنوك هناك، وحان وقت صلاة الظهر، فأقرب مسجد لك الذهبي، الذي بناه الشيخ أحمد بن عبدالله المذيهب، وإذا كنت في سوق الحراج، فأمامك فرصة للصلاة في مسجد علي بهاي، الذي يعود بناؤه إلى أكثر من 200 سنة.
وإذا رجعت إلى شارع الزعفران، ولا بدَّ أن تعود إليه، وأردت أن تصافحك نفحة صوفية، فهنا مسجد أحمد بن علوان، الصوفي الشهير، وقد بناه محمد حسين المصري سنة 1847م وأطلق عليه اسم الصوفي أحمد بن علوان، وان كنت في الميدان، فصلِ في مسجد خواص الذي بني سنة 1907م ، وإن صادف وكنت في القطيع، أو كنت من قاطنيه، فالصلاة واجبة في مسجد العلوي.
(10)
إنها الجمعة، ستكون هذه الآفاق أكثر روحانية، في المدينة التي تعج بالمساجد والمصلين.. وستكون أمامك خيارات عديدة لتختار أحد المساجد الكبيرة لتؤدي فيها صلاة الجمعة، من أشهرها العيدروس، وأبان ، والعسقلاني، الذي يتسع لأكثر من ألف مصل بعد إعادة بنائه في عام 1369 هجرية على يد إمامه وخطيبه العالم الفقيه الشيخ محمد سالم البيحاني. وينسب المسجد إلى الحافظ بن حجر العسقلاني الذي أقام في عدن عام 806 للهجرة، وجدده علي بن عبد الله اليافعي في العقد التاسع من القرن الثالث عشر الهجري.
(11)
الثالث عشر من ربيع ثاني الموعد السنوي لزيارة ولي الله الصالح العيدروس، عدن كلها تخرج عن بكرة أبيها للاحتفال بهذه المناسبة، إنه اليوم الذي يصادف دخول أبوبكر بن عبدالله العيدروس إلى عدن واستقراره فيها في سنة 890 هجرية، الموافق 1485م، لاشك أن الناس الذين عاصروه، أو عاشوا قريبا من عصره، رأوا معجزاته العظيمة حتى اتخذوا عليه مسجدا، وخصصوا يوما لإقامة زيارته في هذا التاريخ من كل عام.
زيارة العيدروس قديما
زيارة العيدروس قديما

وكأنه لم يرحل، وكأنه لايزال مقيما في المكان والزمان ذاته رغم مرور القرون!! وكأنه في مداه غير قابل للفناء رغم فناء جسده.. وكأن روحه لم ترحل. والناس الذين يحتفلون كل عام في نفس التوقيت بذكراه ميالون إلى هذه الخاصية بالذات، الجسد يفنى، والروح باقية! لهذا خالفوا كل عادات إقامة الزيارات لأولياء الله الصالحين المعروفة. الميلاد، الموت هناك يوم يدعى يوم دخوله إلى عدن.. والاحتفال به مقصود لذاته تماما. صار يوما دخل التاريخ ووجب تخليده، حمل علمه ومعجزته وحملته جمال القدرة إلى عدن على حد وصف والد صديقي أديب قاسم! لقد زرعته القدرة في مكان وزمانين آخرين يضمنان له الخلود.
إن فكرة الانتقال بدون وسيلة مواصلات تبدو من الأحلام المستحيلة جسديا، لكن الفكر لا يحسب مثل هذه الحسابات.. له منطقة الآخر الذي يحسب به الأشياء، فيجعل المستحيل في مدى الممكن، وتلك حالات تحصل ويتداولها الناس عن اقتناع، وإن كانت أقرب إلى الخرافة والأساطير. الجسد ثقيل ولا ينتقل مثل الصوت أو الصورة عبر الأثير، لكني أعرف رجلا شبه بهلول في بلدتنا اسمه السيد جعفر، كنا نتبارك به ونحن أطفال، كان الناس يرونه في أكثر من مكان في نفس التوقيت، بما في ذلك في الكعبة موسم الحج، رغم أن قدراته العقلية لا تمكنه من السفر إلى أي مكان!!.
(12)
ذات سنة سافر فيها أديب قاسم إلى الهند، التقى بمهندس ديكور هندي يعمل في السينما، وجرهم الحديث إلى الأولياء، فإذا بالهندي يفاجئه بوجود ولي عندهم بالهند اسمه العيدروس!! هل هو العيدروس نفسه الولي المدفون في عدن.. وقد نقلته جمال القدرة التي أشار إليها والد أديب إلى هناك بعد موته.. أم عيدروس آخر.. عيدروس هندي؟!!! نفس القدرة التي سخرت ثريا من حيدر أباد ليقوم بتوسيع وترميم مسجد العيدروس في عدن وتجديده سنة 1859م، وإضافة القبة والمدخل الرئيسي الشرقي إليه!! وهو نفس العام الذي انتهت فيه أعمال ترميم صهاريج الطويلة التي بدأت سنة 1856، حيث صارت من المصادر المهمة لتموين سكان عدن بالمياه، وكانت المدينة تعاني من شح شديد في المياه وتجلب إليها بواسطة الجمال من خارجها، وعرفت عدن قبل أية مدينة في الجزيرة تحلية المياه، وذلك عندما بنيت في كريتر محطة تحلية سنة 1876م.
(13)
ياعيدروس بن عبد الله يا حياة النفوس
نحن بغينا الزيارة ما بغينا الفلوس
تلك هي النسخة الجديدة من أغنية يغنيها الفنان العدني أبوبكر شاهر، لازال العيدروس بعد وفاته بخمسة قرون يجد من يتغنى به، وعرسان يطوفون بمسجده طلبا للبركة والتوفيق في حياتهم الزوجية، وهم يعلمون أن الله وحده من يمنح البركة والتوفيق لعباده، لكن هكذا جرت العادة! أما الجموع الغفيرة التي جاءت من كل مكان، للزيارة فها هم يمشون خلف الكسوة في موكبها الكبير الشهير، والذي تصل أقمشتها من أنحاء اليمن وخارجه. تمشي فيه مواكب الطرق الصوفية بأعلامهم وأناشيدهم، وعلى جوانب الطرقات أسواق الحلويات، الألعاب، الحواة، الأرجوزات، ألعاب الفروسية، وكنت هناك عدة مرات مع أبي أرسل بصري نحو الموكب السائر نحو الضريح، منبهرا، ومبهورا، وفي نفس الوقت أبحث عن إخوتي الصغار حتى لا يتوهوا في الزحام.
وللحديث بقية…
نقل عن موقع "صوت عدن"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى