في تعز.. أطفال لم يفرقوا بين لعبة ولغم فحلّت الكوارث وتعاظمت المآسي.. خرج لشراء الطعام فعاد أشلاء ليطعم أهله الوجع والدموع

> استطلاع / صلاح الجندي

> لم يكن الطفل محمد يعرف أنه سيفقد الكثير من رفاقه بقذائف الموت القادمة من خلف أسوار الحصار المطبق على مدينة تعز.. تلك القذائف التي ترسلها المليشيات الانقلابية كل يوم على الأحياء السكنية.
فبين قصف وقصف تتقلب جنبات الأطفال بين خوف وهلع، وبين حصار يمسك بأنيابه جوانب المدينة، وألغام في المنتصف دست في ليلة خبث، وخبأت بمكر يركض الأطفال ليصبحوا هم الشريحة الأكبر في هذه المدينة ضحايا حرب لا تفرق بين صغير وكبير.
لا يوجد هناك حرب أخلاقية وحرب لا أخلاقية، فالحرب هي الحرب مهما كانت دوافع أصحابها للخوض فيها، ففي النهاية سقوط الضحايا بهذا الشكل هو الذي يعري سوءة الحرب.
يتجول الموت كل يوم في تعز، يحط رحاله أينما أراد دون استثناء أحد.. الأطفال أيضًا معرضون لقذائف الموت تحت تهمة البراءة والصمود.
يقول محمد بصوت مرتجف:"كان شهاب وأسيد مع بقية الأطفال في طابور الماء أمام الخزان الوحيد في الحارة، وفجأة سقطت قذيفة على المكان الذي كانوا فيه فمات شهاب وأسيد، وبقية الأطفال جرحوا بجروح كثيرة".
ويضيف محمد:"اللحم حق شهاب وأسيد كان موزع بالمكان، وكانوا العيال (الأطفال) يجمعوه لداخل كيس لأن القذيفة (طايرت أجسادهم) وكنت أشاهدهم من بعيد ولم أستطع أن أتحرك من مكاني، لأني كنت أشوف زي الحلم قدامي وافتجعت ولحد الآن وأنا مرعوب من هذا الموقف".
ويواصل محمد حديثه بحسرة: “فقدت معظم أصدقائي في هذه الحرب، وآخرهم شهاب الذي كان من أفضل الأصدقاء، وكان خدوم لكل الذين بالحارة (ما يموتوا إلا الطيبين) والآن نحن مفجوعين من سقوط قذيفة مثل ما سقطت على أصحابي”.
*آثار بالغة
أطفال بين قتلى وجرحى، والناجون من خديعة القذيفة أو خبث القناص سيعيشون، ولكن جل من صادفناهم كانوا ناجين بآثار بالغة، نتيجة تأثير هذه الحرب في نفسياتهم، فكم من الأطفال أصبح مصابا بالإرهاب والخوف والعصبية، وأحياناً ينعكس في هيئة أعراض جسدية من تبول لا إرادي وأرق وغيره.
الطفل أسامة أحد هؤلاء الضحايا الذين خلفتهم الحرب الغاشمة التي خلفت وراءها مأساة لا تنتهي، والتي تحكيها أمه بمأساة لا تترجمها الكلمات قائلة: “كان أسامة يلعب مع الصغار في الحارة وحدثت اشتباكات بين عناصر مسلحة في الحي الذي تسيطر عليه المقاومة، وأصيب أسامة بطلقتين في ساقيه، تمكنا من علاج إحداهما، وبقيت الأخرى بلا منقذ، وحالتنا المادية لا تسمح لنا بالسفر، وحالة ابني النفسية متعبة بسبب عدم قدرته على السير”.

وتواصل أم أسامة حديثها: “لم نتمكن من النزوح من منطقة (حوض الأشراف) القريبة من الاشتباكات ومن سقوط قذائف المليشيات، لأننا لا نمتلك مقومات النزوح، وأيضا لا نستطيع ترك منزلنا خوفا عليه من عمليات السطو والنهب”.
أم أسامة تحدثت عن حالة الخوف والهلع المصاحبة للقصف والقذائف التي تحدث لأطفالهم في الليل وأثناء نومهم، والتي تصل إلى التشنج والتبول اللا إرادي نتيجة للخوف والرعب.. وتوضح أم أسامة أن هذه الحرب ستخلق آثارا صحية سيئة على أطفالهم “ما لم تتوقف هذه الحرب اللعينة”.
*معاناة
وبالتجول في مستشفيات تعز وبين أزقة حواريها ستصادف حتماً أطفالا في حالة مزرية لا أظنك بلقائهم قد تمسك دمعة ستفر من مقلتيك لا محالة، أطفال لم يفرقوا بين لعبة ولغم، لينتهي بهم الحال بأطراف مبتورة، وربما قد يحدثونك عن أخ أو أخت أو صديق كان بجانبهم ولغم قد خطفه منهم، وكانت أشلاؤه هي الصورة الأخيرة التي ستعلق في ذاكرته للأبد.
يقول أكرم وأصدقاؤه الأطفال في الحي “بعد ما سقطت القذيفة على صديقنا رحنا نحمله وما قدرناش نحمله لفوق (المُتُر) (دراجة نارية)، وكان ثقيل بعد موته، ولمن جاء العيال الكبار حملوه كان قد مات، وكان يوم رعب وخوف بالنسبة لنا، وفقدنا بهذه الحرب كثير من أصدقائنا”.
*رعب وقلق نفسي
يتحدث أكرم (أحد أطفال حي سوق الدباء في منطقة الحوض بتعز) عن معاناتهم مع وقع القذائف عليهم والتي تؤرق ليلهم وترعب نهارهم ومثله كل أطفال الحي.
يقول أكرم لـ«الأيام»: “كل يوم ونعيش رعب لمن نسمع صوت قذيفة أو اشتباكات، ومن يوم ما ماتوا أصحابنا ونحن نعيش بحالة نفسية مقلقة، خائفين على أنفسنا لو تسقط أي قذيفة لأن الحي حقنا هذا قريب من الاشتباكات”.
أكرم طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره، لكنه يسرد الأحداث وكأنه يشاهد تلك الأشلاء التي وقعت عيناه عليها بعد سقوط قذيفة المليشيات على أطفال الحي قبل عدة أسابيع، فيشرح لنا تفصيل ما حدث لأصدقائه وأجزائهم التي بترت وأصبح بعضهم بلا أقدام أو أيادٍ، ويروي ذلك الرعب الذي صاحبه حتى اليوم.
واصل أكرم حديثه قائلا: “نقوم بالليل أكثر من مرة من صوت القذائف وأصوات الاشتباكات التي ترعبنا، وبالنهار نخاف لو تسقط علينا، كما سقطت على أصدقائنا”.
*ذهب حيا وعاد أشلاء
ذهب لشراء علبة الفاصوليا وقليل من طماطم وبصل لكي يعود بها لاسرته التي تنتظره على وقع قرص الجوع المتراقص في أمعائهم، ذهب لكنه لم يعد بما رحل من أجله بل عاد أشلاء ليطعم أسرته الوجع والدموع.
صارم سمير مصلح علي، خرج في 15 سبتمبر الماضي من هذه السنة (2017)، لشراء العشاء في سوق الصميل حي حوض الأشرف، اختطفت روحه قذيفة الموت الصادرة من فوهات المدافع التابعة للمليشيا الانقلابية، فسقط على إثرها شهيدا، مخلفا حسرة لأسرته وأطفال الحي.
لم يكن صارم ضحية القذائف الوحيد على هذا الحي، فقذائف المليشيات خلفت الكثير من الضحايا من الأطفال والنساء والرجال، ومنهم من بترت أرجلهم وأيديهم بسبب هذا القصف العشوائي الذي يتجرعونه كلما أرادت المليشيات أن تفرغ حقدها على تعز.
لم تنصف أسر صارم ورفاقه لا منظمات دولية ولا مجتمع دولي، ولم يرقع بؤسهم جمعيات الإغاثة التي لم تطرق أبوابهم، ولا حكومة شرعية تتلمس أوجاع أسرهم، وواقعهم التعيس.
وبذلك تصبح معاناة أطفال تعز كبيرة وبالغة تحتاج إلى لفتة بجدية واهتمام وإيجاد حل لإنهاء مأساتهم، وذلك بإنهاء الحرب، خصوصا وجل الأطفال لا يستطيعون الفرار من جحيم الحرب إلى مناطق آمنة، فقدرهم معلق بقدرة ذويهم في النزوح.
*ثقافة الحرب السلبية
في الآونة الأخيرة انتشرت العديد من مظاهر العنف بين أوساط الأطفال في تعز، فتراهم يحملون العصي وألعاب البنادق والمسدسات، يتقاتلون بها فيما بينهم ويردّدون أناشيد القتال والجهاد، وعباراتهم أصبحت هي القتل والذبح والتهديد والوعيد.
فلقد أمست الحرب تؤجج ثقافة العنف بين الأطفال خصوصاً في الظروف التي تمر بها البلاد وثقافة الحرب التي أضحت أمامنا وفي كل الجهات، فالأطفال تراهم يلعبون حرباً، فئتان تتقاتلان ويتراشقون بالمفرقعات، وتراهم يخيفون المارة أحياناً خصوصاً النساء ويضحكون بكل براءة عندما يرون الهلع في إحداهن!
ياسمين الصلوي معلمة تقول: “نحن أمام ظاهرة اجتماعية خطيرة يجب التصدي لها والحد منها، ففي ظل ما تعانيه بلادنا وجب علينا كتربويين وإعلاميين ومجتمع مدني التركيز على الأطفال وعلى أثر الحرب عليهم وعلى سلامة نفسيتهم فهم الأساس”.
وتضيف: “فما أن ينظر الصغار للألعاب العسكرية من بنادق ورصاص حتى يخيل لهم أنهم كبارٌ يدافعون عن الوطن خصوصاً مع استمرار الصراع السياسي والتعبئة الجهادية والحرب المدمرة التي لم تتوقف لها شعلة فيهرعون إلى شرائها بكل فرح”.
*تصريح مختص
وعن الآثار النفسية التي يتعرض لها الأطفال جراء الحروب قالت الدكتورة نبيلة الشرجبي عميدة كلية الآداب بجامعة تعز، ودكتورة علم النفس الاجتماعي إنه “في خضم الحروب والقتالات الدموية عادة ما يجبر الأطفال على تجارب قد تعد الأسوأ على كل المعايير”.
وأضافت في تصريح لـ«الأيام»: “إن الإحصائيات تشير إلى أن هناك ملايين الأطفال تعرضوا لمواقف تفوق في قوتها أسوأ الكوابيس التي يمكن للبالغين تخيلها، وأن الآثار النفسية هي آثار بالغة وتتراوح ما بين الصدمة والإنكار لدى الطفل، وآثار ما بعد الصدمة، كما أن المشاهد التي تعرض على وسائل الإعلام عن الحرب ستؤدي إلى بث الأفكار الرجعية والتخلف في أذهانهم وستلقي بدورها آثار سلبة على مستقبلهم”.
وأكدت الشرجبي أن “الآثار الدموية التي يتعرض لمشاهدتها الأطفال تخلف الكثير من الأعراض النفسية ويكون تأثيرها بشكل كبير ما بعد الصدمة كالكوابيس والصعوبة في التركيز والشعور باليأس”. وأشارت إلى تقرير للجنة الأمم المتحدة الخاص بالأطفال يتحدث عن أن الأطفال الذين يكونون ضمن دوامة الأحداث الدموية تبقى ذاكرة الأحداث معهم، وتسبب لهم كوابيس شديدة، كما أنها تسبب لهم الحزن والخوف والشعور بالمرارة.
وقالت الشرجبي إن أطفال الحرب بحاجة إلى الدعم النفسي من قبل المختصين، وأن الاطفال الذين يحرمون من الدعم النفسي قد يتعرضون في المستقبل إلى إصابتهم بالانتفاضات النفسية، ويصبحون غير أسوياء وغير قادرين على التكيف، وأيضا تزيد نسبة الانتحار فيهم، كونهم يدمنون على العنف كنوع من التنفيس الانفعالي، ويجب أن يجدوا الدعم النفسي من أجل إيجاد أطفال أسوياء.
وأوضحت الشرجبي لـ«الأيام» أن “الدعم النفسي غير كافٍ للأطفال، وأن إنهاء الحرب أو الانتقال بهم إلى بيئة آمنة بعيدا عن مظاهر الحرب وآثارها هو الحل الحقيقي لدعم هؤلاء الأطفال”.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى