ذات عدن.. ذات زمن (15)

> أ. محمد عمر بحاح

> (1)
مدهشة عدن إلى درجة العبقرية، وبسيطة إلى درجة الإدهاش، إلى درجة أنهم يسمونها مدينة الفقير، والأدهش من ذلك بالنسبة لنكرة مثلي أني أصبحت صديقا لأغلب مشاهيرها في زمن قياسي، بنفس القدر الذي صرت صديقا لبسطائها، فلم أشعر بأني غريب فيها. بل إنني واحد منها، كأني ولدت فيها أوعشت فيها قبل أن أخلق.
أ. محمد عمر بحاح
أ. محمد عمر بحاح

لايمكن إلا أن تكون منجذبا إلى هذه المدينة ومنبهرا بها، فأنت أمام عبقرية مكان إلى حد القداسة، إلى حد البساطة، تتدفق من عمقها الحياة بلا انتهاء، تاجرة، كاتبة، فنانة، شاعرة، أديبة، مغامرة، ثائرة، متمردة. تهضم القديم، تتفاعل مع الثقافات، وفي الوقت المناسب تخلق الجديد الذي يعبر عنها وعن هويتها ووجودها. إنها مدينة عبقرية وصانعة معجزات.
وأنا ذلك الطفل الذي هرب من طفولته ولم يكبر.. أحببت عدن لأنها منحتني مساحة من الحرية ومن الحب، والصداقات التي لم أكن لأجدها في أي مكان.. معادلة الحب والصداقة لا تعادلها أية معادلة في الدنيا.
عندما نكتب عن عدن نقول إنها مدينة محاطة بالبحر وبالجبال. اضيفوا إليها وبالحب.. إنه حب حقيقي، خالص، جميل، دافيء، ساحر لا أحد يستطيع إلا الوقوع في أسره.. مدينة منتشية بالشمس وبالوجدان، ومن لايتدفأ بهذا الحب تلفظه بدون أن تحزن عليه.
(2)
إنه حظ المجيء إلى العالم، حظ الميلاد في عدن، عندما تحس المدينة بأن القالب، القوالب، تضيق عليها، تخرج قدميها من التابوت لتعلن أنها شيء آخر.. حيث لا كلمات يصبح العالم متساويا كما يقول الشاعر العراقي خضير ميري.. وحيث لا جديد يتساوى العالم لغويا. وما لم تضف شيئا إليه فلست منه.. من هذا العالم. محمد عبده غانم، أضاف إلى عدن بالمعنى الذي أقصده.. وأثبت أنه صانع جديد، وما أظن أن هذا جاء من فراغ. بل كان مهيأ لذلك الدور. كان من حظه أنه ولد في عدن في 15يناير 1912، وبهذا فهو من مواليد برج الجدي الذي يقول الفلكيون إنه برج العباقرة. كانت الوراثة تسري في دمه، فوالده السيد عبده غانم هو من مؤسسي نادي الإصلاح العربي في التواهي سنة 1929، وتولى رئاسة النادي لسبع عشر عاما كاملة، وسيأتي يوم يتولى فيه الابن النابغة مكان والده في ترؤّس النادي(1951) وسيكون أول خريج جامعي في عدن واليمن وكل الجزيرة العربية من الجامعة الأمريكية في بيروت، 1936، أول دكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن، مدرس لغة عربية وإنجليزية في ثانويات عدن، رئيس نادي التنس العدني، مدير معارف، مفتش دائرة معارف، أسس ورأس نوادي الأحداث في عدن، وغير ذلك الكثير قبل وبعد. غير أن مايهمني في هذا المضمار أنه أسس في عام 1949 مع آخرين من أبرزهم الفنان خليل محمد خليل الندوة العدنية للموسيقى، وسيحدث الاثنان انقلابا في الموسيقى ونمط الغناء السائد في عدن واليمن. الجينات وحدها لا تكفي، والعلم، أو الشهادات وحدها لاتكفي، لابد من الموهبة، الموهبة هي من يسجل اسمك في سجل المبدعين إذا اكتشفتها وآمنت بها، وصقلتها، وحاولت أن تجعل منها مشروعا، وأنت نفسك صاحب مشروع !!
وواضح أن محمد عبده غانم كان من هذا النوع من المبدعين.. من أصحاب المشاريع الكبيرة. ولم يكن في هذا وحده، بل كان معه آخرون.. لكن دون شك كان الربان، الرائد الذي يعرف ماذا يصنع، وإلى أين يريد الوصول.
(3)
المشاريع العظيمة تبدأ بخطوات صغيرة. ومشوار الألف ميل يبدأ بخطوةً كما يقال. وخطوة محمد عبده غانم بدأت بتأسيس ندوة الموسيقى العدنية مع كل من: خليل محمد خليل، عبد الله محمد خليفة، ياسين شوالة، وديع حمدان وغيرهم من الشخصيات الاجتماعية العدنية. ومن معطف هذه الندوة، وتحديدا من معطف محمد عبده غانم شاعرا، وخليل محمد خليل ملحنا ومطربا، خرجت الأغنية العدنية. ومن ثم أسس رابطة الأغنية العدنية عام 1951 لكن هذه المرة كان الفنان سالم أحمد بامدهف الذي غادر الندوة التي مكث فيها لمدة عام واحد إلى الرابطة الملحن الأوحد فيها، لكن في الاثنين كان محمد عبده غانم هو فارس الشعر والأغنية العدنية الحديثة. ويسجل النقاد والكتاب هذه الريادة له وللفنان خليل محمد خليل. وصارت عدن تتنفس لونا غنائيا جديدا ينسب إليها لأول مرة، بعد أن كانت السيادة فيها للألوان المعروفة الصنعانية، الحضرمية، اللحجية، واليافعية، بالإضافة إلى تأثرات هندية على بعض الألحان بحكم وجود جالية هندية كبيرة في عدن وأيضا بفعل الأفلام الهندية، مما يمكن أن نطلق عليه ارب انديكو، على غرار أغاني الفرانكو عرب!
(4)
غنى له كبار الفنانين أمثال: خليل محمد خليل، سالم بامدهف، محمد سعد عبد الله، أحمد قاسم، فرسان خليفة، وسواهم، مما يعني أنه كان القاسم المشترك للملحنين والمطربين الذين وجدوا في كلماته صورا ومضامين جديدة تلقفها الجمهور بسرعة، وأحس بانجذاب إليها. وفي سجله أكثر من خمسين أغنية، والعديد من الدواوين: هي (على الشاطئ المسحور، موج وصخر، حتى يطلع الفجر، في موكب الحياة، في المركبة، الموجة السادسة، الأنامل الجافة، حمينيات صدى صيرة، ديوان محمدعبده غانم، الأعمال الشعرية الكاملة، أغنيات اليمني الدكتور محمد عبده غانم. كما أصدر العديد من المسرحيات الشعرية: سيف بن ذي يزن، الملكة أروى، عامر بن عبدالوهاب، فارس بني زبيد، الثائر الأحمر، المسرحيات الشعرية الكاملة. وله دراسات في الشعر واللغة، وصنعاء حوت كل فن، وزمان الصبا، بالإضافة طبعا إلى مؤلفه الضخم شعر الغناء الصنعاني.
وللحديث بقية..
نفلا عن موقع "صوت عدن"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى