قمة عائلية!

> عمار المشهداني

>  بالكاد وافق على عقدِ قمَّة معها، ترك لها تحديدَ وقتها، ولكنَّه اختار مكانَها، وهي قبِلَت على الفور.
الساعة الحادية عشرة ليلاً: أنجزَت هي كلَّ واجباتها المنزلية حتى وجبةَ الغداء ليوم غدٍ، فهي ستباشرُ في أول يومٍ وظيفتها كمدرِّسة بعد عدَّة سنين من التخرّج.

جلسَت أمامَه وهي تنفُض عن ساعديها آثارَ الماء وتمسحُ بهما وجهها، هو كعادتِه جالسٌ أمام حاسوبِه الشخصي، وعينه على صفحته على «الفيس بوك» يقلِّبها ويتابِع كلَّ شاردةٍ وواردة فيها، أصدقاؤه تجاوزوا أربعةَ آلاف صديق.
ببرود: تفضَّلِي وأَوْجِزي.

بادرَتْه على الفورِ: منذ متى لم نجلس مثلَ هذه الجلسة؟
أراد أن يجيب، ولكنَّها بادَرَتْه: أعرف إجابتك، ولن أطيلَ عليك، هل أستطيعُ أن أطلب منك طلبًا واحدًا؟
أومأ برأسه موافقًا.

أريد أن أكلِّمك بمنطقِ الصَّراحة التي تعرفها عنِّي، وتَسمعني بمنطق تقبّل النَّقْد البنَّاء الذي طالما تحدَّثتَ عنه وأسهبتَ على صفحتك.
ابتسامة خفيفة تعلو محيَّاه، ولكنّ عينيه على صفحتِه المفتوحة.

أتدري أنك تغيَّرتَ، هل تشعر بنفسك؟ هل تدري مقدار شغَفِك بهذا العالم الأثيري المفتوح أمامك؟ أتدري كم ساعةً تقضيها وأنت تطالعُ كلَّ شاردة وواردة فيه؟ تُعلِّق، وتَعجب، وتَنْشر مِن طرائف الحِكمة وجميلِ القول ما يعجز عنه غيرُك، أعرف أن غيري ممَّن احتوشَهم هذا العالمُ مثلك يرون فيكَ ما لا أرى؛ صورةً أقرب لكلماتك التي يفوح منها عطرُ الجمال، ويشعّ بين ثناياها ألَق الكمال وعبير المثالية والنرجسية الحالمة.

مثاليٌّ أنت، حتى في حزنِك، حتى في فرحِك، حتى وأنت تقلِّب صفحات الزَّمان بأبعادِه الثلاثة، والمكان بجِهاته الأربع، ولم تَعُد الأرضُ بسمائِها وبرِّها وبحرها تتسعُ لك ولِأفكارك وعقلك.
ولكنِّي لا أرى فيك ذلك: أنت صورةٌ من صور التناقضِ الصارخ الذي نعيشُه في زمانِنا هذا، الذي تعيب عليه كثيرًا حين نطيرُ بمثاليَّاتنا الزائدة ونرتفعُ بها حتى لا نعد نبصر الأرضَ ومَن عليها.

لقد زاد وزنُك كثيرًا، حتى لكأنك تمشي بصعوبة، وذاك عكس ما كنتَ تريد، حتى صلاتك لم تَعُد تحفل بها، مشاعرك نحوي تبلَّدَت، ولم تعد تلك الكلمات الرنَّانة - التي أحسدُك على طريق صياغتها - تسعفك في الوصول إلى قلبِي الذي عشقك.
الأولاد ومشاغل الحياة ومتاعب الزمن؛ ليست عذرًا لأمثالك الذين يدَّعون أنهم راقون بأفكارهم، ويهبون النصائحَ لغيرهم، وعلى أتمِّ وجهٍ، وينثرون ورد السعادة في كلِّ مكان.

سأدعُك لعالمِك الذي لم أعد جزءًا منه، ليس عندي ما أُضيفه لك، فما قلتُه لك غيضٌ مِن فَيض، هداك اللهُ للخير، أرجو أن تُسامحني إن تجاوزتُ قليلاً، ولكنها زفَرات حبيسة في الصدر قد تَخنقني إن لم أُخرجها.
سأذهب للنوم وأنت كعادتِك: تعالَ حين أكون في حُلمي العاشر.

ابتسامة خفيفة تعلو وجهَه، قامَت هي وودَّعَته.
وببرودٍ قال لها: وأنتِ من أهل الخير.

تابعَت خطواتها إلى المطبخ لتُطفئ الأنوارَ ولتستعدَّ ليومها الأول في الوظيفة.
أخذَته رعشةٌ خفيفة، خلع نظَّارَته، دَعَك عينيه قليلاً، وضع يدَه على حنكِه، واتَّكَأ عليها.

لحظاتٌ من التفكير، صفحتُه لم تزَل مفتوحةً، بَدَأ يفكِّر بمنشورٍ جديد، كتب: «يشعر بالحيرة مع تعابير إيحائية مبهمة»، نشرَها على الفور، دقيقتان أو أكثر وصلَ أولُ تعليقٍ، أعاد نظَّارته، وابتدأَت الرحلةُ المعتادة.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى