> محسن محمد أبوبكر بن فريد
- أمر طبيعي أن يحزن أخ أصغر عندما يُغيّب الموت أخاه الأكبر. ومن المنطقي أن يحتفظ هذا الأخ الأصغر بحزنه لنفسه، ولا يشغل الناس بأمر ذي خصوصية «عائلية». ولكنني أنعي لكم اليوم غياب «مرحلة كاملة» من حياتنا القبلية والوطنية في الجنوب. غيّب الموت، الخميس الماضي، أخي الأكبر، عبدالله محمد أبوبكر بن فريد، الملقب «جعفان»، الذي كان «يهتري» في كل وقت وحين بـ «خو محسن»، عندما تلم به الملمات والخطوب. بموت جعفان تموت وتختفي حقبة من حقب الزمان التي مرت بوطننا العزيز. كان جعفان يمثل قيم وأخلاق وشجاعة ونبل وبساطة المرحلة «القَبلية». ولأن أخي جعفان كان علامة مميزة، بل أيقونة لمرحلة غابرة مجيدة في منطقتنا. فقد رأيت أن من الواجب الوطني أن أقدم لمحات خاطفة عن هذا «الرجل» الذي فقدناه الخميس الماضي.
- عندما كان جعفان وأهله ورفاقه يصولون ويجولون في مشيخة العوالق حينذاك، تم حصاره هو وعمه الشيخ الجليل فريد بن أبوبكر، وهو «هامة» كبيرة في العوالق. تم حصارهم في أوائل عام 1960م، هم وكوكبة من رفاقهم في «كهف» في وسط «جبل مُريد»، وهو لا يبعد كثيراً عن مدينة الصعيد، من قبل حملة عسكرية من الجنود والضباط الراجلين، وذلك بهدف أسرهم أو قتلهم. ولكن الله نجاهم، وفلتوا من وسط الحصار، وسط سيل منهمر من الرصاص والقنابل اليدوية. وقد أصيب الشيخ فريد بالرصاص في كتفه الأيمن وظل ينزف حتى فقد الوعي. وعند عودة الفرقة العسكرية إلى مدينة الصعيد وهي تحمل قتلاها وجرحاها، تزمّل أحد الشعراء من الجنود وقال بيت الشعر الشهير:
وان قد دعا جعفان من المحجا أخشامها ترجــع كراسيهــا
- بعد صفقة ترافسكس والشامي، جهّزت بريطانيا والإدارة المحلية في المشيخة حملة عسكرية ضخمة، لإجلاء آل أبوبكر بن فريد ورفاقهم من كور العوالق، لإيصالهم إلى مدينة البيضاء «الحدودية». وبالفعل، بدأت هذه الحملة العسكرية الدقيقة المنظمة براً وجواً في 27 أبريل 1960م. وكان الجنود يطاردون الثوار من جبل إلى جبل، ومن منطقة إلى أخرى. وكانت الطائرات البريطانية ترمي آلاف المنشورات عبر الجو، تحذر من استقبال أو إيواء أو مساعدة الثوار. وبعد حوالي شهر من المطاردة، وصل فارسنا جعفان وأهله ورفاقهم إلى مدينة البيضاء وهم متعبون، منهكون، منكسرون. وكان في استقبالهم على مداخل مدينة البيضاء أعداد كبيرة من الثوار من مختلف مناطق الجنوب (الذين تقطّعت بهم السبل، لربما في صفقات مماثلة بين حكومة الإمام والمندوب السامي البريطاني). وكان في استقبالهم كذلك الرجل العربي الشهم «النقيب» صالح بن ناجي الرويشان، الذي كان «عامل» الإمام آنذاك في البيضاء، والذي كان معارضا لصفقات الشامي وترافسكس. وعندما استقبل الثوار القادمين من جبال العوالق، قال لهم الرويشان «لا تحزنوا، فقد خرج الرسول محمد بن عبدالله، صلوات الله عليه، من مكة مطروداً، ولكنه عاد إليها فاتحاً منتصراً. وأنتم ستعودون إلى بلادكم منتصرين.. ولو بعد حين.» وعند الاستقبال الكبير على مشارف مدينة البيضاء، قال الشاعر محمد امفضل، مُرحباً بالثوار القادمين:
رحب بكم بن ناصر الجعري والحصن ذي حليت في ضباره
قـالوا لنـــا الطيار والعسكـــر تصبح بكـم غــاره ورا غـــاره
ياريت والله من حضر معكـم ياخــذ من النــاموس مـقـــداره
(والعجيب، والمُعيب، أن هذا التاريخ المُشرّف، وهذه الحركات الوطنية المبكرة، ليس لها ذكر ولا إشارة في الكتب والإعلام الجنوبي. فكل شيء يبدأ وينتهي بثورة 14 أكتوبر 1963م).
- في شهر أغسطس 1968م، كان فارسنا جعفان على رأس حركة سلمية تنادي بضرورة قيام حكومة «وحدة وطنية» تضم كل الشرائح الجنوبية، وليس الانفراد بالحكم من قبل الجبهة القومية فقط. وانتشرت هذه الحركة الوطنية، أي حركة الوحدة الوطنية، في كل أنحاء المحافظة الرابعة، شبوة الآن، وفي الصبيحة وردفان. وجاء الأستاذ فيصل عبداللطيف، الوزير والزعيم البارز للجبهة القومية، وعدد من وزراء الجبهة القومية، وكبار قادة الجيش، خصوصاً من العوالق، جاءوا إلى منطقة «المسحا»، التي تبعد بضعة كيلومترات عن مدينة الصعيد، جاءوا بهدف نزع فتيل الأزمة، و «إجهاض» الحركة وهي لا تزال في مهدها. وتحول العمل السلمي إلى انفجار مسلح. وقُتل في «معركة السوداء»، القريبة من مدينة عتق، أكثر من 50 رجلا، من أبرز رجالات العوالق. وتم إسقاط طائرة تشيكية قرب مطار عتق. وتمكّن الجيش من كسر شوكة هذا العمل القبلي غير المنظم. ودخلت قوات الجيش إلى مدينة الصعيد «عرين جعفان» ووادي يشبم، وتم تدمير وإحراق العديد من البيوت، والعبث بالمنطقة بطريقة مُعيبة (وذلك لتصفية حسابات قديمة بين ضباط الجيش من العوالق وآل دثينة).
فشلت حركة الوحدة الوطنية في صيف 1968م، وحمل جعفان وأهله ورفاقهم من كل أبناء المنطقة، حملوا السلاح وطلعوا مرة ثانية إلى كور العوالق في حركة مسلحة ضد الجبهة القومية، والنظام الجديد في عدن. استمرت هذا الحركة لأكثر من عام. ولكن هذا الحركة لم يتم لها النجاح. أو بمعنى أصح، «لم يُراد لها النجاح». فقد تحولت قضية الجنوب منذ ذلك الحين من قضية «محلية» داخلية، إلى قضية «إقليمية» و «دولية»، ودخلت ضمن الصراع الإقليمي والدولي، وضمن «الحرب الباردة» بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي. ولم يعد أبناء البلاد يملكون من أمرهم، أو من أمر بلادهم، ولا زالوا، إلا الشيء القليل. وهاجر جعفان وأهله ورفاقهم ليس إلى مدينة البيضاء هذه المرة، ولكن إلى مدينة جدة، المملكة العربية السعودية.
- وأخيراً..
ما كنت أود أن أتحدث عن حزني الخاص، إلا أنني قد رأيت أن من الظلم ألا يعلم جيل، بل أجيال جديدة من أجيال بلادنا، عن «رمز» من رموز القبيلة ومن رموز النضال الوطني. جعفان لم يكن مُلكاً لعائلته فقط، ولكنه كان «أيقونة وطنية جنوبية»، وجزءا من التاريخ الوطني للجنوب.
رحمة الله عليك يا أخي جعفان وأسكنك فسيح جناته. وإنا لفراقك لمحزونون..