الحق في المعرفة(أو الحق في حرية المعلومات) والحق في محاكمةعادلة

> «الأيام» القاضي د.محمد جعفر قاسم :

> تمهيد:كانت السويد أول بلد في العالم يصدر قانوناً حول حرية الصحافة قبل أكثر من مائتي عام. ويشهد العالم منذ عقد من الزمان موجة واسعة من التشريعات المتعلقة بالحق في المعرفة الذي يتجسد في الحق في الوصول إلى المعلومات.

وسوف نتعرض لهذا الحق من كل النواحي المتعلقة بتطوره وشرح مضمونه مع عرض سريع لتشريعات ودساتير الدول التي أخذت به وكيف لجأ بعضها إلى التفسير القضائي لإقراره عند خلو دساتيرها من الإشارة إليه. كما سنعرض المعايير التي تدل على وجوده مع القيود التي تفرض عليه، وفي هذا الصدد سنعرض مواقف القضاء في بعض الدول الديموقراطية وسننهي بحثنا بعرض الموقف اليمني من هذا الحق.

وفي مسألة الحق في محاكمة عادلة سوف نعرض بشيء من التفصيل المعايير الأساسية التي تدل على وجوده ، الواردة في التشريع الدولي المتجسد أساساً في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966م، مع مقارنتها بما قرره المشرع اليمني في الدستور وفي قوانين الجرائم والعقوبات والإجراءات الجزائية والسلطة القضائية.

وسوف نختم كل قسم من قسمي هذا البحث بالاستنتاجات التي توصلنا إليها.

والله الموفق،،،

المبحث الأول
حق الجمهور في المعرفة

أو الحق في حرية المعلومات والوصول إليها

الفرع الأول

1- مضمونه و تطوره

لا يمكن أن يوجد حق الرأي العام في معرفة حقائق الأمور الجارية في المجتمع بصورة فعلية إلا إذا كان الجمهور يتمتع بالحق في الوصول إلى المعلومات بحرية، وعليه فإن حق الرأي العام بالمعرفة ليس وثيق الصلة بالحق في حرية المعلومات فحسب بل لا يتصور وجوده إن لم توجد حرية للوصول إلى المعلومات.

و سوف نتناول هذا الحق بالبحث باعتباره الوعاء الذي يتضمن حق الجمهور بالمعرفة.

وفي الحقيقة فقد تم الاعتراف الآن وبصورة واسعة بأن الحق في حرية المعلومات يعتبر أحد الحقوق الأساسية للإنسان. وهناك اتجاه عالمي واسع نحو الاعتراف القانوني به، ذلك أن العديد من دول العالم التي تبنت الديموقراطية إما أنها قد سنت قوانين لحرية المعلومات أو أنها في طريقها إلى سن مثل هذه القوانين .

وهناك عدة أسباب تبرر اعتبار الحق في حرية المعلومات من حقوق الإنسان الأساسية، ولكن ما يثير الاستغراب حقاً أن الاعتراف بهذا الحق الذي يشكل دعماً وإسناداً قوياً للديموقراطية قد استغرق وقتاً طويلاً.

ولا يدل احتفاظ السلطات العامة بالمعلومات على أنها تحوزها لنفسها، بل يعني أن حيازتها لها تستند الى صفتها كراعية للمصلحة العامة، وعليه يجب أن تكون المعلومات في متناول جميع أفراد الجمهور إن لم توجد مصلحة عامة تقتضي السرية.

وتوجد عدة أهداف نفعية تفسر الاعتراف الواسع النطاق بالحق في حرية المعلومات، الذي وصفته المنظمات الدولية غير الحكومية بأنه أوكسجين الديموقراطية. فتوافر المعلومات يعتبر شرطاً لا غنى عنه لوجود الديموقراطية التي تعني أساساً مقدرة الأشخاص على المشاركة الفعالة في صنع القرارات التي تؤثر على حياتهم. ولدى المجتمعات الديموقراطية سلسلة واسعة من آليات المشاركة تتراوح من الانتخابات المنتظمة إلى منظمات المراقبة التي ينشئها المواطنون إلى الآليات التي تقوم بالتعليق على السياسات ومشاريع القوانين. وتعتمد المشاركة الفعالة في كل هذه المستويات على مدى توفر المعلومات، فعملية التصويت في الانتخابات مثلاً، لا تعتبر فقط مجرد وظيفة فنية بل ينبغي أن يتوفر لدى هيئة الناخبين فيها المعلومات الكافية عنها.

وتعني الديموقراطية أيضاً المحاسبة والحكم الرشيد . فيتمتع المواطنون بحق مراقبة تصرفات زعمائهم كما لهم الحق في أن يديروا حوارات عميقة بشأنها ، ويجب أن يكونوا قادرين على تقييم ما أنجزته الحكومة، ويعتمد هذا بدوره على مدى توفر المعلومات حول الحالة الاقتصادية والأنظمة الاجتماعية والمسائل الأخرى التي يهتم بها الرأي العام.

ويشكل التناسق والحوار المفتوح أحد أكثر الوسائل فعالية في مراقبة سوء الأداء الحكومي ، كما يشكل الحق في حرية المعلومات أيضاً وسيلة رئيسية لمكافحة الفساد الحكومي ويستعمله المحققون الصحفيون والمنظمات غير الحكومية للكشف عنه واستئصاله كما أثبتت التجربة في العديد من الدول، خاصة في الهند.

ويركز المعلقون عادة على نطاقه السياسي ، غير أنه يخدم أيضاً أهدافاً اجتماعية هامة أخرى. فمثلاً الحق في الحصول على معلومات شخصية عن أحد ما يتعلق بخصوصيات هذا الشخص، إلا أنه من ناحية أخرى يكون أمراً رئيسياً للحكم عليه إذا كان المعني شخصاً يعمل في حقل السياسة وفي عملية صنع القرار. كما أن الحق في الاطلاع على السجلات الطبية، الذي يرفض عادة السماح به ما لم يوجد ما يبرر الاطلاع عليها، يمكن أن يساعد على اتخاذ القرارات المتعلقة بالعلاج الطبي والتخطيط المالي إلخ..

وهناك أخيراً نطاق يهمل عادة التحدث عنه، وهو استخدام الحق في حرية المعلومات لتسهيل المعاملات التجارية بصورة فعالة. و من المعروف أن السلطات العامة تحتفظ بكم هائل من المعلومات من كل نوع يتعلق الكثير منها بالمسائل الاقتصادية التي يمكن أن تكون ذات فائدة عظيمة للأعمال التجارية , فإذا سن قانون حول حرية الوصول للمعلومات فيمكن لذوي الشأن أن يستفيدوا استفادة قصوى من تلك المعلومات.

و تنطبق معايير الحق في حرية المعلومات بشكل متساو على كل من الدول النامية والدول المتقدمة ، فليست الديموقراطية خياراً لأقلية من البلدان المختارة بل هي حق لكل شعوب الأرض. ويحتاج كل شعب إلى أدوات للمراقبة ولخلق التوازن عند ممارسة هيئات الدولة لصلاحياتها ، لذلك يكون توفير المعلومات له أمراً لا غنى عنه لتمكينه من مراقبتها مراقبة فعالة.

ويفهم عادة أنه يرمي إلى الوصول إلى المعلومات التي تحوزها السلطات العامة وذلك بناء على طلب يقدم إليها ، ولكن ذلك لم يعد شرطاً مسبقاً للحصول عليها لأن السلطات العامة أضحت ملزمة بتفسير المعلومات ذات الطبيعة الهامة حتى وإن لم يوجد طلب مقدم إليها بذلك ، مثل طريقة عمل هذه السلطات وسياساتها وإمكانية مشاركة الجمهور في أعمالها.

ويترتب التزام ذو طبيعة إيجابية على الدول يتعلق بتوفير المعلومات ذات الطبيعة الحيوية لمواطنيها ، فمثلاً تنادي بعض المنظمات غير الحكومية بأن توفر الدول المعلومات الضرورية حول خروقات حقوق الإنسان فيها ، ويشكل هذا المطلب أمراً جوهرياً خاصة في أعقاب فترة شهدت العديد من هذه الخروقات، كما يشكل التزاماً متجدداً بالديموقراطية وباحترام حقوق الإنسان.

وقد لا ينحصر الأمر بتجميع المعلومات التي بحوزة السلطات العامة، بل يتعداه أحياناً إلى التحقق من مصداقيتها والتحري عن حقيقة هذه الخروقات. وتظهر أهمية هذه المسألة في العديد من لجان تقصي الحقائق التي يتم تشكيلها على أكثر من صعيد.

ومن المهم جداً أن تتوفر المعلومات عن الخروقات التي تتم بشكل يّمكن كل أفراد المجتمع من الوصول إليها، وذلك من أجل أن تستطيع الأمة بأسرها التعامل معها ومن أجل أن تخطو خطوات واسعة إلى الأمام.

و نلاحظ نمواً كبيراً نحو الاعتراف بالحق في حرية المعلومات خلال السنوات العشر الممتدة ما بين عامي 1992-2002م. و كانت الأمم المتحدة والأنظمة الإقليمية لحماية حقوق الإنسان قد أقرت منذ زمن طويل نسبياً بأهميته الكبرى ، كما اعترفت بأهمية سن القوانين لتوفير الضمانات عند تطبيقه عملياً .

فعلى سبيل المثال تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ وقت مبكر أي في دورتها الأولى المنعقدة عام 1946 قراراً برقم(1) 59 يعتبر حرية المعلومات حقاً أساسيا من حقوق الإنسان وحجر الزاوية للحريات الأخرى. كما نص على ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 في مادته التاسعة عشرة وكذا العهد الدولي للحقوق السياسية و المدنية في مادته التاسعة عشرة أيضا. ومن جهته تبنى الكومنولث البريطاني وثيقة في عام 1999 تتضمن عدداً من المبادئ و الإرشادات حول الحق بالمعرفة و حرية المعلومات. و نصت على هذا الحق كل من المعاهدة الأمريكية حول حقوق الإنسان الصادرة عام 1969 (المادة 13 منها) و المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان و الحريات الأساسية الصادرة عام 1950 (المادة 10 منها). و أخيراً تبنى الاتحاد الأفريقي عبر اللجنة المنبثقة عنه حول حقوق الانسان و الشعوب في دورتها 32 في أكتوبر 2002 أعلاناً بالمبادئ حول حرية التعبير في أفريقيا.

ونجد أن العديد من الدول التي تبنت الديموقراطية حديثاً قد سنت دساتير تعترف صراحة بهذا الحق. وفي بلدان أخرى فسرت المحاكم العليا فيها الضمانات الدستورية المقررة لحرية التعبير على أنها تشمل الحق في حرية المعلومات.

ولكن الظاهرة المثيرة للاهتمام حقا تكمن في هذه الموجة من قوانين حرية المعلومات التي تجتاح العالم. فلقد سنت هذه القوانين خلال الفترة ما بين ما بين 1992-2002م في كل منطقة من مناطق العالم، باستثناء منطقة الشرق الأوسط ، كما يجري إعداد مثل هذه القوانين في بلدان أخرى . وبالرغم من الاتجاه الطبيعي للحكومات نحو السرية إلا أنها بدأت تدرك بأنها لا تستطيع مقاومة الاتجاه لإصدار تشريع يضمن الحق بالوصول إلى المعلومات التي تحوزها. وهناك تقرير يفيد بأنه حتى يوليو 2002م، تبنت أربعون دولة تشريعات حول حرية المعلومات كما تستعد (30) دولة أخرى لإصدار مثل هذه التشريعات.

وتختلف القوانين التي صدرت حول حرية المعلومات اختلافاً كبيراً من حيث المضمون ومن حيث الضمان الذي تقدمه لحرية الأفراد في الحصول عليها . فبعضها ، مثل قانون زيمبابوي حول الوصول للمعلومات وحماية الخصوصية هو مجرد تشريع لقمع وسائل الإعلام أكثر من كونه قانوناً يسهل الوصول إلى المعلومات. غيرا أن غالبية هذه التشريعات تجبر الحكومات على الانفتاح.

2-التفسير القضائي الدستوري لحرية المعلومات:

فسرت العديد من المحاكم العليا في بلدان العالم المختلفة حق الوصول إلى المعلومات بأنه محمي بالضمانة الدستورية المقررة للحق في حرية التعبير.

ففي عام 1969م تبنت المحكمة العليا اليابانية مثلاً مبدأ أن (شيرو كينري) (أي الحق بالمعرفة) محميً بالضمانة المقررة لحرية التعبير المنصوص عليها في المادة (21) من الدستور الياباني.

وفي عام 1982م قررت المحكمة العليا الهندية أن الحق في الوصول إلى المعلومات الحكومية يعد جزءاً أساسياً من الحق في حرية الكلام والتعبير المنصوص عليه في المادة (19) من الدستور الهندي وقالت المحكمة:

(ينبثق مفهوم الحكومة المنفتحة من الحق في المعرفة الذي يتجلى بصورة غير مباشرة في الحق في حرية الخطابة والتعبير الذي تضمنه المادة 19 (1) (أ). لذلك ينبغي أن تكون القاعدة هي الإفصاح عن سير عمل الحكومة وأن تكون السرية هي الاستثناء بحيث تكون مبررة فقط عند وجود أشد المتطلبات للمصلحة العامة . ويجب أن يكون مسعى المحكمة دوماً نحو تخفيف منطقة السرية كلما كان ذلك ممكناً وفقاً للمصلحة العامة. ويجب أن يستقر في الأذهان في جميع الأوقات أن الإفصاح يخدم أيضاً أحد المجالات الهامة للمصلحة العامة).

وفي كوريا الجنوبية قررت المحكمة الدستورية العليا في عامي 1989 و 1991م وجود حق بالمعرفة تتضمنه الضمانة المقررة لحرية التعبير المنصوص عليها في المادة (21) من الدستور الكوري الجنوبي، وأنه في بعض الحالات يمكن أن يتم خرق هذا الحق عندما يرفض المسؤولون الحكوميون الإفصاح عن بعض الوثائق المطلوبة.

وكانت المحاكم في بعض البلدان، خاصة في الولايات المتحدة قبل صدور قانون حرية المعلومات، تتردد في قبول مبدأ أن الحق في حرية التعبير ينطوي على الحق بالوصول إلى المعلومات التي تكون بحوزة الدولة. لذا قررت المحكمة العليا للولايات المتحدة، قبل صدور هذا القانون، أن التعديل الأول للدستور الأمريكي، الذي يضمن حرية التعبير والصحافة، لا ينشئ الحق في الوصول إلى المعلومات الحكومية أو إلى مصادر المعلومات التي تكون بحوزة الحكومة.

3- النصوص في دساتير بعض البلدان حول حرية المعلومات:

تنص بعض البلدان في دساتيرها على الحق في الحصول على المعلومات ضمن نصوصها الدستورية التي تحمي حقوق الإنسان. والسويد هي الدولة المثالية في هذا المجال لأن جميع نصوص قانونها حول حرية الصحافة المعروف رسمياً بقانون الوصول الى السجلات العامة الصادر عام 1766م، قد أصبحت تتمتع بالطابع الدستوري و تشمل حرية المعلومات.

وخلال الفترة الممتدة ما بين (1992-2002م)، نصت العديد من البلدان التي تبنت نظام التعددية السياسية والحزبية، والدول التي تمر بمرحلة انتقالية نحو الديموقراطية، في دساتيرها على هذا الحق ، والأمثلة على ذلك بلغاريا (م41)، استونيا (م44)، المجر (م(1)6) ليشوانيا (م(5)25)، ملاوي (م37)، مولدافيا (م34) الفليبين (المادة الثالثة(7)، بولندا (م61)، رومانيا (م31)، الاتحاد الروسي (م(2)24)، جنوب أفريقيا (م32) وتايلند (م58).

و تتجه الدساتير في أمريكا اللاتينية إلى التركيز على محور هام من هذا الحق يتجلى بطلب الحصول على المعلومات عن شخص مقدم الطلب، سواء كانت هذه المعلومات تحوزها هيئات عامة أو خاصة. كما يشمل هذا الحق، تحديث هذه المعلومات وتصحيحها، فعلى سبيل المثال تنص المادة (43) من دستور الأرجنتين على ما يلي:

(يحق لكل شخص أن يقدم طلباً للحصول على معلومات عن ذاته ليرى المعلومات التي تتعلق بشخصه والتي تحتفظ بها بنوك المعلومات العامة أو الخاصة، وكيفية استخدام هذه المعلومات لتقديم المادة الأولية للتقارير. وإذا كانت هذه المعلومات غير صحيحة أو تمييزية، يكون له الحق في أن يطلب حذفها أو في أن تبقى سرية أو أن تحّدث وذلك دون الإخلال بسرية مصادر الأخبار).

4- التشريعات المتعلقة بالحق في حرية المعلومات:

يعود تاريخ هذه التشريعات إلى ما قبل أكثر من مائتي عام كما قلنا، ولكن القليل منها يعود تاريخه الى حوالي العشرين عاماً. وتسود العالم حالياً موجه لإصدار تشريعات حول حرية الوصول إلى المعلومات. وفي السنوات الممتدة ما بين (1992-2002م)، تم إصدار مثل هذه القوانين في العديد من مناطق العالم.

وصدر أول قانون في العالم حول حرية المعلومات، في السويد في عام 1766م. أما كولومبيا فهي البلد الآخر الذي يتمتع بتاريخ طويل حول حرية المعلومات والذي يسمح قانونها الصادر عام 1888م حول المنظمات السياسية و البلدية للأفراد أن يطلبوا الوثائق التي تحوزها الإدارات الحكومية أو الأرشيف الحكومي.

وقد أصدرت الولايات المتحدة قانوناً حول حرية المعلومات في عام 1967م ثم تبعتها استراليا وكندا ونيوزيلندا عام 1982م. كما أصدرت العديد من الدول الأخرى قوانين حول حرية المعلومات منذ ذلك التاريخ وتشمل:

في آسيا: هونج كونج والهند واليابان وباكستان وجنوب كوريا وتايلند.

في الشرق الأوسط: إسرائيل.

في أفريقيا: جنوب أفريقيا.

في الأمريكتين: بيليز، جامايكا، المكسيك، بيرو، وترينداد و توباجو.

في أوروبا: ألبانيا والبوسنة والهرسك، بلغاريا، جمهورية التشيك، استونيا، جورجيا، المجر، لاتفيا، ليثوانيا، مولدافيا، سلوفاكيا، روسيا، أوكرانيا، والمملكة المتحدة (في عام 2000).

إضافة إلى أن العديد من الدول الأخرى هي الآن في طور الإعداد لإصدار مثل هذا التشريع.

5- المعايير في التشريعات المتعلقة بحرية المعلومات:

إن انجح طريقة لضمان حق الوصول إلى المعلومات تكمن في سن قانون يحمي هذا الحق ويمنح جميع الأشخاص حق الوصول إلى المعلومات الرسمية.

وينبغي أن يتسم مثل هذا القانون بالسمات التالية:

1- أن يلزم الهيئات الخاضعة لأحكامه بالكشف عن أكثر ما يمكن كشفه من معلومات.

2- أن أي استثناء من كشف المعلومات ينبغي أن يتم في ظل ظروف وحالات محدودة وأن تعرّف هذه الحالات في القانون تعريفاً واضحاً.

3- ينبغي أن ينص القانون على آليات احتكام تتمتع بالكفاءة والفعالية يمكن اللجوء إليها عند رفض طلب الوصول إلى المعلومات.

مبدأ الكشف الأقصى عن المعلومات:

يقوم هذا المبدأ على افتراض أن جميع المعلومات التي تحتفظ بها الهيئات العامة يمكن الوصول إليها من قبل أي شخص يقيم في البلد وأن القيود عليه ينبغي أن تحصر في حالات محدودة جداً. وعليه يشتمل هذا المبدأ على ما يلي:

- الوصول إلى المعلومات حق يمكن أن يطالب به أي فرد يقيم بالبلد أي أن المواطنة ليست شرطاً للتمتع به، وذلك أسوة بممارسة حقوق الإنسان الأخرى.

- لا يطلب من الشخص الذي يطلب المعلومات أن يثبت حاجته إليها، وإذا رفضت الهيئة الحكومية تقديم المعلومات له فعليها أن تبرر رفضها .

- على الهيئات الحكومية أن تنشر وتعمم المعلومات العامة التي تهم المجتمع كالميزانية العامة للدولة وبرامج الإنفاق العام.. إلخ.

- توجد بعض الاستثناءات والقيود التي تفرض على حق الوصول إلى المعلومات تتعلق بحماية بعض الحقوق والحريات الأخرى أو بالمصلحة العامة، ويمكن أن تفرض هذه الاستثناءات في بعض الحالات مثل:

- إذا كان كشف المعلومات يضر بسير العدالة في قضية جنائية.

- إذا كان هذا الكشف يخرق خصوصية الأفراد.

- إذا شكل الكشف تهديداً للأمن الوطني.

- إذا كان فيه تهديد للسلامة العامة أو الفردية.

- إذا قوّض كفاءة ونزاهة عملية صنع القرار في الحكومة.

ويجب أن تفسر هذه الاستثناءات تفسيراً ضيقاً كما قد يكون من الضروري تقييدها بفترة زمنية محددة. فمثلاً قد يزول مبرر حجب المعلومات لاعتبارات الأمن الوطني بزوال التهديد عليه. كما ينبغي أن تدقق فيها السلطة التشريعية وذلك عن طريق النص على إجراء الاختبارات الثلاثة التالية:

1- إثبات أن المعلومات المحجوبة تندرج فعلاً تحت إحدى الفئات التي ينص عليها القانون.

2- إثبات أن الكشف عن المعلومات المطلوبة يؤدي إلى الإضرار الشديد بالغرض الذي من أجله تم حجبها.

3- إثبات أن هذا التهديد أكبر من المصلحة العامة التي تكمن في الكشف عنها

وبناء عليه لا يمكن أبداً تبرير القيود أو الاستثناءات التي تهدف إلى حماية الحكومات من الإحراج أو التستر على سوء أفعالها.

ويجب أن يتمتع الأشخاص الذين يطلبون المعلومات بالحق في الاحتكام إلى سلطة أعلى من الهيئة الحكومية التي رفضت منحهم تلك المعلومات كما يجب أن تستوفي السلطة الأعلى معايير معينة وأن تتمتع بسلطات واضحة تمكنها من مراجعة قرار الهيئة الحكومية برفض الكشف عن المعلومات. وينبغي أن يضمن القانون استقلال هذه الهيئة الأعلى لتمكينها من أداء عملها على أكمل وجه.

وهناك عوامل أخرى يجب أن ينص عليها قانون الوصول إلى المعلومات وهي:

- أن لا تكون كلفة الوصول إلى المعلومات التي تحوزها الهيئات العامة من الارتفاع بحيث تثني الساعي عن طلبها.

- يجب أن يتم تفسير القوانين الأخرى بشكل ينسجم، قدر الإمكان،مع الأحكام الواردة في قانون حرية المعلومات.

- يجب أن يوجد تحديد صارم للفترة المحددة للاستجابة لطلبات الحصول على المعلومات. و تتراوح هذه الفترة عادة ما بين أسبوعين إلى ستة أسابيع.

- يجب حماية الأشخاص من أية عقوبات قانونية أو إدارية أو مسلكية إذا قدموا معلومات عن سوء فعل إدارتهم.

6-نطاق تشريع حرية المعلومات:

يمكن أن يشمل تشريع حرية المعلومات كل من الهيئات العامة والخاصة، والمثال على ذلك القانون الذي أصدرته جنوب أفريقيا. و قد تبنت جمهورية جنوب أفريقيا هذا الموقف في خضم الراديكالية الدستورية التي ميزت مرحلة ولادتها الجديدة.

ويسمى أحياناً شمول قانون حرية المعلومات هيئات القطاع الخاص بالحق الأفقي لأنه موجه أفقياً إلى طرف خاص بدلاً من أن يكون موجهاً للأعلى أي إلى الدولة.

ويعتقد أن القطاع الخاص في جنوب أفريقيا قد بدأ بالاستجابة لأحكام القانون الجبرية المتعلقة بحرية المعلومات و ذلك بمسكه الدفاتر المناسبة لتوثيق عملياته وأنه بهذا يتيح مستوى من المساءلة أعلى مما كان موجوداً قبل صدور القانون.


الفرع الثاني
مواقف القضاء في بعض البلدان من القيود الواردة على الحق بحرية المعلومات

لعل أبرز القيود التي ترد على الحق بالوصول إلى المعلومات وحريتها هي تلك التي تفرضها السلطات العامة على الصحافة بحجة صيانة المصلحة العامة، وتتجلى أشد هذه القيود بمنعها من نشر بعض المواد الإخبارية وإجبار الصحفيين على الكشف عن مصادر إخبارهم .

وسنعرض هنا أبرز الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع التي أصدرها القضاء في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، كما سنتناول موقف التشريع والسلطات العامة في فرنسا لمسألة إجبار الصحفيين على الكشف عن مصادرهم الإخبارية. و سنقف أخيراً لعرض الموقف اليمني من الحق في حرية المعلومات.

أولاً: موقف القضاء الأمريكي من منع الصحافة من نشر بعض المواد الإخبارية:

لم يسبق أن تعرضت الصحافة الأمريكية، قبل عام 1971م ، إلى أي ضغط من جانب الحكومة لإجبارها على الامتناع عن نشر أخبار أو مواد إخبارية. ولكن في ذلك العام ظهرت القضية التي اشتهرت باسم (أوراق البنتاجون)، وذلك عندما سرب دانيل اليزبرج معلومات على أقصى درجة من السرية إلى صحفية النيويورك تايمز حول تورط أمريكا في حرب فيتنام . وقد صدر الحكم في هذه القضية بسرعة لا مثيل لها في تاريخ المحكمة العليا الأمريكية لأن القضية نوقشت أمامها في 26 يونيو 1971م وصدر الحكم فيها في 30 يونيو 1971م، وذلك عندما أمرت المحكمة العليا بإحالة القضية من محاكم الموضوع إليها لنظرها على أساس مسائل تتعلق بالقانون فقط مع عدم تناول الوقائع.

وسنعرض هنا أبرز ما تناوله هذا الحكم التاريخي للمحكمة العليا للولايات المتحدة حول الدعوى التي رفعتها الحكومة الأمريكية ضد كل من صحيفتي النيويورك تايمز والواشنطن بوست، والذي صدر بأغلبية ستة قضاة مع رأي مخالف لثلاثة قضاة من بينهم رئيس المحكمة العليا. وهكذا سنعرض رأي عضوين من أعضاء الأغلبية التي أجازت الحكم مع الرأي المخالف الذي أبداه رئيس المحكمة العليا.

US Supreme Court

New York Times Co. V United States

Certiorari to the United States Court of Appeal

For The Second Circuit

No. 1873

Argued June 26, 1971

Decided June 30, 1971

Together with No. 1885, United States V Washington Post Co. et al., on Certiorari to the United States Court of Appeals for the District of Columbia Circuit.

لم تنجح الولايات المتحدة، التي رفعت هذه الدعاوى لمنع نشر بعض المواد السرية في صحيفتي نيويورك تايمز والواشنطن بوست في إثبات ما يبرر طلبها بصدور أمر يقضي بالمنع من النشر.

الحكم الصادر من المحكمة بكامل هيئتها في مسألة متعلقة بالقانون:

لقد أصدرنا أمر المراجعة في هذه القضايا التي تسعى فيها الولايات المتحدة لمنع كل من النيويورك تايمز والواشنطن بوست من نشر محتويات دراسة سرية تحمل عنوان (تاريخ عملية صنع القرار الأمريكي حول السياسة الواجب اتباعها في فيتنام).

و قد تقرر المبداء القائل أن (أي نظام يحتوي على قيود مسبقة على التعبير يقدم إلى هذه المحكمة يحمل في طيا ته قرينة على عدم قوته الدستورية وعلى عدم نفاذه) في قضية بانتام بوكس ضد سوليفان (Bantam Books inc. V Sullivan) وأيضاً في قضية نيار ضد مينيسوتا (Near V Minnesota)

وهكذا يقع عبء الإثبات على الحكومة لكي تبرر فرض مثل هذا القيد (حسبما تقرر في قضية أورجنايزاشن فور ايه بيتر اوستن ضد كيفي (Organization for a Better Austin V Keefe).

وقد رأت المحكمة الابتدائية للمنطقة الجنوبية لنيويورك في قضية النيويورك تايمز والمحكمة الابتدائية لمقاطعة كولومبيا ومحكمة الاستئناف لمقاطعة دائرة كولومبيا في قضية الواشنطن بوست أن الحكومة قد فشلت في إثبات ادعاءاتها.

ونحن نوافق على رأي هذه المحاكم.. لذلك يتم تأييد الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف لمقاطعة دائرة كولومبيا. ويلغى الحكم الصادر عن الدائرة الثانية لمحكمة الاستئناف وتحال القضية مع التوجيه بإصدار أمر يؤيد الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية للمنطقة الجنوبية لنيويورك.

وتلغى أوامر الإيقاف التي أصدرتها المحكمة في 25 يونيو 1971م و تصدر الأحكام فوراً.

وتم الأمر بذلك على هذا النحو.

رأي الأغلبية

رأي القاضي بلاك الذي انضم له القاضي دوجلاس:

أتبنى الرأي القائل بأنه كان ينبغي شطب القضية التي رفعتها الحكومة ضد الواشنطن بوست وإنه كان ينبغي إلغاء أمر المنع ضد النيويورك تايمز دون الحاجة الى إجراء مناقشة شفوية و ذلك عندما ورود هاتين القضيتين لأول مرة إلى هذه المحكمة.

وأعتقد أن كل لحظة يستمر فيها سريان أوامر المنع ضد هاتين الصحيفتين ترقى إلى مرتبة الخرق المستمر والفاضح والذي لا يمكن الدفاع عنه للتعديل الأول للدستور. وأكثر من هذا فإنني أتفق كلياً مع الرأي القائل بأنه يجب علينا بعد المناقشة الشفوية أن نؤيد الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف لمقاطعة دائرة كولومبيا وأن نلغي الحكم الصادر عن الدائرة الثانية لمحكمة الاستئناف وذلك للأسباب التي أبداها زميليّ دوجلاس وبرين. وأرى أنه من سوء الطالع أن بعض زملائي يرغبون في التمسك بالرأي الذي يقضي بأنه من الممكن في بعض الأحيان إيقاف نشر الأخبار. إن مثل هذا الرأي يصيب التعديل الأول للدستور في مقتل.

لقد ُأنشأت حكومتنا عام 1789م مع إقرار الدستور، و تبع ذلك قانون الحقوق في عام 1791م الذي يشتمل على التعديل الأول للدستور. والآن وللمرة الأولى خلال (182) عاماً منذ تأسيس الجمهورية، يُطلب من المحاكم الفيدرالية أن تقرر أن التعديل الأول للدستور لا يفيد المعنى المذكور فيه، بل يعني أن الحكومة تستطيع إيقاف نشر الأخبار التي تنطوي على أهمية كبرى للشعب في هذه البلاد.

ويبدو أن السلطة التنفيذية، بمحاولتها الحصول على أوامر منع النشر ضد هاتين الصحيفتين وتقديم ذلك إلى المحكمة، قد نست الهدف الأساسي للتعديل الأول للدستور وتاريخه.

فعندما تم الأخذ بالدستور عارضه بقوة كثير من الناس لأن وثيقته لم تحتوي على قانون للحقوق لحماية بعض الحريات الأساسية، و خافوا على وجه الخصوص من أن الصلاحيات الجديدة الممنوحة للحكومة المركزية قد تُفسر بأنها تسمح للحكومة بأن تقيّد وتنتقص من حرية المعتقد الديني والصحافة والتجمع والتعبير. واستجابة لضغط الرأي العام الجارف عرض جايمس ماديسون مجموعة من التعديلات لكي يطمئن المواطنين بأن الحريات الكبرى ستظل آمنة وبعيدة عن سلطة الحكومة في تقييدها.

وقد اقترح ماديسون ما أصبح بعدئذٍ التعديل الأول للدستور في ثلاثة أجزاء، ينص أحدها على أنه (لن يحرم الشعب من حقه في الكلام والكتابة أو في نشر مشاعره كما لن يقيد هذا الحق. ويجب أن تكون حرية الصحافة، التي تعد أحد متاريس الحرية، غير قابلة للخرق.) وقد عُرضت هذه التعديلات على الكونجرس من أجل تقييد الصلاحيات العامة التي منحت قبل سنتين إلى السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الدستور الأصلي. وقد غيّر قانون الحقوق الدستور الأصلي إلى ميثاق جديد لا تستطيع فيه أية سلطة من سلطات الدولة تقييد حريات الشعب في الصحافة والكلام والديانة والتجمع. ومع ذلك يجادل المدعي العام, ويبدو أن بعض أعضاء المحكمة يوافقونه، على أن الصلاحيات العامة للحكومة التي تم الأخذ بها في الدستور الأصلي ينبغي أن تُفسر بطريقة تجعلها تقّيد الضمانات المحددة الواردة في قانون الحقوق الذي تم تبنيه لاحقاً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى