الحق في المعرفة (أو الحق في حرية المعلومات) والحق في محاكمة عادلة {2}

> «الأيام» القاضي د.محمد جعفر قاسم :

> ولا أستطيع تصور وجود تحريف في التاريخ كهذا التحريف. فماديسون والمشرعون الآخرون للتعديل الأول للدستور صاغوه بلغة آمنوا بها بحماس ولا يمكن أبداً إساءة فهمها:(يجب أن لا يقر الكونجرس أية قانون.. يقيد حرية الصحافة).

وتاريخ التعديل الأول للدستور واللغة التي حرر بها يدعمان الرأي القائل بوجوب ترك الصحافة حرة في نشر الأخبار مهما كان مصدرها دون فرض رقابة عليها أو إصدار أوامر منع أو تقييد مسبق لها. وقد أعطى الآباء المؤسسون في التعديل الأول للدستور الحماية التي تحتاجها الصحافة الحرة للقيام بدورها الأساسي في ديموقراطيتنا. فينبغي أن تخدم الصحافة المحكومين لا الحكام.

لقد ألغيت صلاحية الحكومة بمراقبة الصحافة، وذلك لكي تبقى الصحافة حرة دوماً لتراقب الحكومة، كما تمت حماية الصحافة من أجل أن تعرّي وتكشف أسرار الحكومة ولكي تزود الناس بالأخبار. و تستطيع فقط الصحافة الحرة غير المقيدة أن تعرض خيبة الأمل في الحكومة. ومن أهم مسؤوليات الصحافة الحرة أن تمنع أي سلطة من سلطات الدولة من خداع الشعب وإرساله إلى بلاد بعيدة لكي يموت من الحمى والطلقات والقذائف الأجنبية. وإنني أرى، أنه بدلاً من إدانتها على تحقيقاتها الشجاعة ينبغي علينا مدح وإطراء الـ «نيويورك تايمز» و«الواشنطن بوست» والصحف الأخرى لخدمتها الغرض الذي تصوره بوضوح الآباء المؤسسون. و قامت الصحافة، بكشفها لأعمال الحكومة التي أدت إلى حرب فيتنام ، بما أمل به بالضبط المؤسسون للدستور.

وتستند قضية الحكومة هنا على مقدمات تختلف كلياً عن تلك التي هدت وأرشدت واضعي التعديل الأول للدستور و يتجلى هذا في التصريح الذي أدلى به المدعي العام بعناية كما يلي:

(والآن يا عدالة القاضي بلاك فإن تفسيرك للتعديل الأول للدستور مشهور، وأنا أحترمه بالتأكيد. تقول أن -لا قانون- يعني لا قانون، وينبغي أن يكون هذا واضحاً. وأستطيع أن أقول يا عدالة القاضي إنه بالنسبة لي فإن (لا قانون) لا يعني (لا قانون) وسأحاول أن أقنع المحكمة بأنه هذا هو التفسير الصحيح…. فهناك أجزاء أخرى من الدستور تمنح الصلاحيات والمسؤوليات إلى السلطة التنفيذية، ولم يكن يقصد بالتعديل الأول للدستور أن يجعل من المستحيل على السلطة التنفيذية أن تقوم بمهامها أو أن تحمي أمن الولايات المتحدة).

وتجادل الحكومة بأنه على الرغم من التعديل الأول للدستور، تنبع سلطة الحكومة في حماية الأمة ضد نشر المعلومات التي يؤدي كشفها إلى تعريض الأمن الوطني للخطر من مصدرين اثنين:

السلطة الدستورية لرئيس الجمهورية في تسيير الشؤون الخارجية وسلطته كقائد أعلى للقوات المسلحة. وبعبارة أخرى يطلب منا أن نقرر أنه على الرغم من وصية التعديل الأول للدستور تستطيع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية أن تمنع نشر الأخبار وأن تقيّد حرية الصحافة باسم (الأمن الوطني) . ولا تحاول الحكومة حتى أن تستند على أي قانون من القوانين التي يقرها الكونجرس. وبدلاً من ذلك تتبنى ادعاء خطيراً يقضي بأن تقوم المحاكم ذاتها بوضع قانون يقيّد حرية الصحافة باسم الإنصاف والسلطات الرئاسية والأمن الوطني، حتى عندما يتقيّد ممثلو الشعب في الكونجرس بوصية التعديل الأول للدستور ويرفضوا سن مثل هذا القانون.

إن الزعم بوجود سلطة لرئيس الجمهورية في إيقاف نشر الأخبار باللجوء للمحاكم يؤدي الى إلغاء التعديل الأول للدستور وإلى تدمير الحرية الأساسية والأمن اللذين يتمتع بهما الشعب الذي تأمل الحكومة أن تجعله آمناً.

وكل شخص يقرأ تاريخ الأخذ بالتعديل الأول للدستور سوف يقتنع بدون أدنى شك بأن أوامر المنع من النشر، مثل الأوامر التي تطلب في هذه القضية، هي التي أراد ماديسون ومعاونوه أن يجرّموها ويمنعوها في هذه الأمة في كل العصور.

إن كلمة (الأمن) كلمة عامة وغامضة ينبغي أن لا تستخدم لتقييد القانون الأساسي الذي يحتويه التعديل الأول للدستور. إن الحكومة بحراستها للأسرار العسكرية والدبلوماسية بعيداً عن الممثلين المطلعين للشعب، فإنها لا تقدم بهذه الطريقة أمناً حقيقياً لجمهوريتنا. إن واضعي التعديل الأول للدستور، الذين كانوا على اطلاع تام بكل من الحاجة إلى الدفاع عن الأمة الجديدة والخروقات التي ارتكبتها الحكومات الإنجليزية والاستعمارية، قد سعوا لإعطاء هذا المجتمع الجديد القوة والأمن وذلك بنصهم على عدم تقييد حرية الكلام والصحافة والديانة والتجمع. وقد عبر ببلاغة رئيس القضاة هوج -الذي كان رجلاً عظيماً ورئيساً عظيماً للقضاء- عن هذه الفكرة عندما قررت المحكمة أنه لا يمكن معاقبة رجل على حضوره اجتماع أداره الشيوعيون بقوله : (كلما تعاظمت أهمية المحافظة على المجتمع من التحريض على قلب مؤسساتنا بالقوة والعنف، تعاظم أمر المحافظة على الحقوق الدستورية في حرية الكلام والصحافة الحرة والتجمع الحر، وذلك من أجل الإبقاء على الفرص المتاحة للمناقشات السياسية الحرة حتى تستجيب الحكومة في نهاية المطاف لإرادة الشعب. إن التغييرات، إن وجدت رغبة بها، من الممكن أن تتم بالوسائل السلمية. وهنا يكمن أمن الجمهورية الذي يشكل الأساس المتين للحكم الدستوري).

رأي القاضي دوجلاس، الذي انضم إليه القاضي بلاك:

(بينما أنضم إلى رأي المحكمة أعتقد أنه من الضروري أن أعبر عن وجهة نظري بصورة كلية.

ينبغي ملاحظة أن التعديل الأول للدستور ينص على أنه «لن يصدر الكونجرس أي قانون… يقيد من حرية الكلام، أو حرية الصحافة» وهذا في رأيي لا يتيح مجالاً لأي قيد حكومي على الصحافة).

لا يوجد قانون يمنع نشر الصحافة للمواد التي تسعى النيويورك تايمز والواشنطن بوست لاستخدامها، وينص القانون رقم (793) على (أي شخص يحوز بدون ترخيص، أو يمكنه الوصول إلى، أو يسيطر على أية وثيقة أو كتابة أو معلومة تتعلق بالأمن الوطني ويكون لدى الحائز أسباب للاعتقاد بأن هذه المعلومة يمكن أن تستخدم للإضرار بالولايات المتحدة أو تفيد أية أمة أجنبية، ويقوم ببث ذلك إلى أي شخص يكون غير مخّول باستلامها، سيحكم عليه بغرامة لا تتجاوز (10.000)دولار أو بالسجن لمدة لا تزيد عن عشر سنوات أو بكلتا العقوبتين. وتدعى الحكومة أن كلمة (بث) تتسع لتشمل النشر. وهناك دليل بأن هذا القانون رقم (793) لا ينطبق على الصحافة. فلقد وجدت صياغة أخرى له تنص على أنه (عند وجود طوارئ وطنية ناتجة عن حرب تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها، أو وجود خطر مثل هذه الحرب، فيمكن لرئيس الجمهورية بإعلان يصدره، أن يعلن وجود مثل هذه الطوارئ وأن يمنع بإعلان يصدره نشر أو بث، أو محاولة نشر أو بث أية معلومة تتعلق بالدفاع الوطني التي تكون لها في تقديره هذه الصفة أو يمكن أن تفيد العدو). ولكن خلال المناقشات التي دارت في مجلس الشيوخ حول هذا النص تمت الإشارة على وجه الخصوص إلى التعديل الأول للدستور وهزم عند التصويت.

وعليه فإن رأي القاضي جريفن في قضية التايمز بأن هذا القانون لا ينطبق على هذه القضية قد كان رأياً سديداً.

وأكثر من هذا فإن القانون الصادر في (23) سبتمبر 1950م الذي عدل القانون (رقم 793) ينص في المادة (1) (ب) على:

(لن يُفسر أي شيء في هذا القانون على أنه يخوّل، أو يتطلب أو ينشئ رقابة عسكرية أو مدنية أو أن يقيّد بأية طريقة أو يخرق حرية الصحافة أو حرية الكلام حسب ما هو منصوص عليه في دستور الولايات المتحدة. ولن يتم إصدار أية لائحة يكون لها هذا التأثير) . ففي هذه المنطقة بقي الكونجرس مخلصاً لوصية التعديل الأول للدستور.

وعليه فإن أي سلطة تحوزها الحكومة ينبغي أن تأتي من سلطتها الذاتية. فالسلطة في شن الحرب هي (سلطة شن الحرب بنجاح) ( أنظر قضية هيراباياشي ضد الولايات المتحدة Hirabayashi v united states). ولكن هذه السلطة تنبع من إعلان بالحرب.غيرأن الدستور يمنح هذه الصلاحية للكونجرس وليس لرئيس الجمهورية و ذلك في مادته 1 -(8).

وكما قررنا في قضية (أورجانا يزاشن فور ايه بيتر اوستن ضد كيفيOrganization for a Better Austin V Keefe) فإن أي تقييد مسبق على التعبير يأتي إلى هذه المحكمة يدل بقرينة قوية على عدم نفاذه الدستوري).وتدعي الحكومة بأنها تتمتع بسلطات ذاتية تخولها اللجوء إلى القضاء والحصول على أمر منع لكي تحمي المصلحة الوطنية التي تدعي في قضيتنا هذه بأنها تتمثل بالأمن الوطني. ولكن القرار الذي اتخذ في قضية نيار ضد مينيسوتا قد ألغى هذا المذهب الواسع بعبارات حاسمة.

ويستخلص من التعديل الأول للدستور حظر الممارسة الواسعة النطاق للقمع الحكومي على المعلومات المحرجة. ومن المعروف أن التعديل الأول للدستور قد أخذ به لمواجهة الاستخدام الواسع النطاق في القانون غير المكتوب (الشريعة العامة( Common Law جريمة الفتنة عن طريق المحررات والمطبوعات لمعاقبة نشر وبث مواد محرجة للسلطات. وستدخل قضيتنا هذه التاريخ كأكثر التجسيدات دراماتيكية لهذا المبدأ. ويدور في الأمة جدل واسع حول موقفنا في فيتنام.

وقد سبق هذا الجدل زمنياً عملية الكشف عن محتويات الوثائق الراهنة التي تتعلق به بصورة كبيرة. إن السرية في أعمال الحكومة أمرً يجافي الديموقراطية ويخلد الأخطاء البيروقراطية . إن الجدل والنقاش المفتوح أمر أساسي لصحة أمتنا لذا ينبغي أن تخضع القضايا العامة لنقاش قوي ومنفتح( أنظر ما تقرر في قضية نيويورك تايمز ضد سوليفان).

إنني أؤيد الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف في قضية الواشنطن بوست وألغي أمر الإيقاف الصادر عن محكمة الاستئناف في قضية النيويورك تايمز وأوجه بتأييد حكم المحكمة الابتدائية.

وتشكل أوامر الإيقاف التي ظلت سارية لأكثر من أسبوع سخرية مرة من المبادئ التي يحتويها التعديل الأول للدستور حسبما فسرت في قضية نيار ضد مينيسوتا.

محاضرة قدمت الى ورشة العمل التي نظمتها وزارة العدل حول العلاقة بين القضاء والإعلام في 26-28/4/ 2005م.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى