نجوم عدن..عبدالله عبدالرزاق باذيب

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
عبدالله عبدالرزاق باذيب، أحد قادة الحركة الوطنية البارزين في عدن في النصف الثاني من القرن العشرين. كان دائماً في الساحة بثقافته العالية وقلمه الراقي وحراكه الدؤوب، وواقعيته المبصرة، وقدراته على الإقناع والاستقطاب والتنظيم وإشاعة الطمأنينة والأمل واستثارة مواهب الإقدام والشجاعة وقدرات الجدل والحوار.

كان رقما صعباً لا يمكن تخطيه أو تجاوزه، وكان ابن العصر البازغ آنذاك مبشراً بالاشتراكية، وتاج رأسها الماركسية اللينينية، ومهادها الجديد دول العالم الثالث بعد أن وطدت أقدامها في المعكسر السوفيتي الذي أسسه فلاديمير أيليتش لينين، وحوّطه وسيجه جوزيف ستالين، ورحلت إليه طيور العالم التي أضناها الاستعمار الأوروبي من كل فج عميق، وكان عبدالله باذيب طير اليمن الذاهب إلى ذلك المنهل والآيب إلى أرض الجنتين، حاملاً الوعد بأنهار العسل واللبن، غاضاً النظر عن التجاوزات في حقوق الإنسان التي لم تتكشف على الملأ إلا بعد وفاة جوزيف ستالين، حيث أطل العالم عبر الزعيم السوفيتي الخلف خروتشوف على بعض ما كان يدور خلف الستار الحديدي الذي أطبق على أرواح الملايين تقرباً إلى الكتاب الأحمر، وآلهة الأولمب الجديدة، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.

كان الأستاذ عبدالله باذيب، رجل الأمل الجميل المتدثر بالفكرة الخلابة، ولم تكن الشيوعية سوى ذلك النسيج النظري المتوهج بألوان الشفق الفجري بين دفتي كتاب، وقد حدثني حواريّه الأكثر شبهاً به عبدالرحمن خبارة، أنه أسر إليه ذات يوم أن الشوارع الخلفية في موسكو مليئة بالفقر والبؤس، فقال له الأستاذ: انس كل ذلك يا عبدالرحمن ولا تتحدث به حتى إلى نفسك. ربما كان يريد أن يقول: دعنا نمضي نحو القمة ولا نبالي بما يتساقط على الطريق من متاعنا.

حين حكم «الرفاق» بعد 22 يونيو 1969م، اعتنقوا أقصى اليسار الماركسي المتناثرة أذياله في ممالك الشمولية الشيوعية، انتقاءً وتعسفاً وجدلاً لا طائل من ورائه، وكانت النتيجة ما عرفتم وذقتم، ولو عادوا لما حادوا، فالعلة في العقل والنظر والأهواء، وكان الأستاذ عبدالله باذيب من الذين أصبحوا على يساره، قد حار في أمر الجراد الذي غمر الأرض وما عليها فقنع باليمين اليساري المهادن، حتى تمرد عليه أخلص تلاميذه، فأصبحوا حديث المدينة ومحل عقابها وحرمانها، حتى وصل مدمنو التدخين منهم يلتقطون أعقاب السجائر، «السبارس» من الأرض، ولكنهم صمدوا رغم إدراكهم بعد فوات الأوان أنهم يحاربون طواحين الهواء، ومع ذلك لم أجد بعد هذا الزمن الطويل من لا يحني رأسه منهم احتراماً لذكرى الأستاذ.

تعرفت إلى الأستاذ مباشرة وكان وزيراً للتربية والتعليم، وقد حيل بيني وبين العمل، فاستقبلني برحابة صدره ورجاحة عقله وطيب محياه، وسألني ما الذي بينك وبين الرفاق؟ قلت: والله لا أدري. فرفع السماعة واتصل بالأستاذ عبدالله الخامري، وزير الإعلام آنذاك (1970م) وكان هو الآخر رجلاً في غاية التمدن والأريحية، مع كثير من خيال المرحلة المشوب بالزبد الذي يذهب جفاء مما جلبته سيول المناطق الداخلية، وسأله: ما مآخذكم على فضل النقيب؟ فرد الخامري بأنه يقال عنه إنه ناصري. فقهقه الأستاذ طويلاً وهو يقول لي: فليمدد الحجاج رجليه، فما الناصرية سوى إحدى تجليات المرحلة الوطنية الديمقراطية الهادية إلى الاشتراكي. ومع ذلك أكدت له أن لا علاقة تنظيمية لي بأي حركة. فقال لي: اذهب غداً إلى كلية عدن للتدريس، فتلك هي حدود صلاحياتي.

عبدالله باذيب صاحب صرخة «حُشّوا» أيام الإنجليز، وقد قالها في مقالة شهيرة أيام الإنجليز؛ أي حين تضيق بكم سبل التعبير الطبيعية عن الرأي، «حشوا» فيما بينكم وفي مجالسكم حتى لا تموتوا بغيظكم، وهو صاحب ومحرر جريدة «الأمل» التي كانت بمثابة فرقة مسلحة في حرب الاستقلال، وهو وزير «المطاريد» من الإعلام والأجهزة الفنية الذين تجمعوا تحت مظلته في وزارة الثقافة، بعد أن رمت الاستخبارات مكاتبنا وملفاتنا إلى ملعب الكرة في التواهي، ولم يشعر أي أحد منا ولو لثانية أننا خارج الاحترام.

كان عبدالله باذيب آخر الرجال المحترمين في ذلك الزمن الأغبر، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى