> م.ريم عبدالغني:

في مطار العاصمة الأوروبية الكبيرة.. أقف أمام الكوة الزجاجية، أنتظر أن يختم جواز سفري، يقلبه الموظف بيديه، يتأمل تفاصيله بفضول.. يبتسم «بتذاكي».. قبل أن يقول كمن اهتدى إلى نتيجة عبقرية «اليمن.. أجل اليمن»، ويستفيض بالإيضاح بأن ينفخ إحدى وجنتيه بلسانه ثم يضيف بصفاقة:« اليمن.. القات».

استشيط غضباً وأنا أحدق فيه.. أفكر أن أوضح له.. أوشك أن أتكلم.. أتردد.. ثم أعدل، إذ ليس هو المخطئ الحقيقي.. ولماذا نلوم الغرب.. إذا كانت أجيال عربية بأكملها لا تعرف عن اليمن إلا وجهه التعس..؟ التخلف والفقر والجهل والحرب والإمامة والقات.. أجيال متعددة لا تعرف شيئاً عن هذا البلد العريق بجذوره الضاربة في أعماق التربة وأعماق التاريخ.

أستلم جواز السفر على مضض، وأدع موظف المطار «سعيداً بذكائه» يرتشف فنجانه.. هو حتماً لا يعرف أن قهوته «الموكا» أتت من ميناء «مخا» اليمني على متن سفينة ذات صباح.. وآه لو درى في أي قصور مترفة عاش اليمنيون يوم كان أجداده يقبعون في أكواخهم الباردة، أليس قصر غمدان الذي بني من عشرين طابقاً في القرن الأول للميلاد أول ناطحات السحاب في التاريخ المدون؟، ورغم أن المستكشفين أطلقوا على مدينة شبام الحضرمية (التي يزيد علو بناياتها الطيينة على عشرة طوابق) اسم «مانهاتن الصحراء»، لكنها في الحقيقة قد بنيت قبل مانهاتن بخمسمائة عام.

أجتاز بوابة المطار إلى فضاء العاصمة الغربية العملاقة.. أجيل البصر في الحضارة الإسمنتية الضخمة فأراها رغم البريق والهيبة.. خالية من النكهة والطعم.. هل أنا متحيزة لليمن؟ ربما.. لكنني بالتأكيد لست وحدي..فها هو هانس هلفيرتز يقول «اليمن هو القسم الأكثر حظوة من الطبيعة والأكثر تميزاً في التاريخ بين مناطق شبه الجزيرة العربية»، أما استرابوا فيصف اليمنيين بأنهم «أغنى العرب»، ويصف أرضهم بأنها «أخصب أرض العرب» وأنها «تنتج المر واللبان والقرفة»، ويعجبني تعلق الباحث الفرنسي (رونالد ليوكوك) بأنه «قد تطلق بعض الصفات على عدد من البلدان لكننا لا نجد سوى ركن واحد في العالم أطلق عليه منذ القدم صفة البلاد الخيرة أو السعيدة ARABIA FELIX، الاسم الذي أطلقه عليها الرومان بينما عرفها الإغريق باسم «بلاد العطور».

ومنذ سنوات طوال وأنا أعتبر اليمن إحدى قضاياي الأساسية، ليس فقط من خلال الأبحاث والدراسات التي أعددتها (وأتابع بها رسالة الدكتوراه في مجال هندسة العمارة اليمنية التقليدية) فحسب، بل أيضاً من خلال نشاطاتي المكثفة والمحاضرات التي ألقيها والمعارض التي أنظمها، محاولة المساهمة في تسليط الضوء على هذا البلد العظيم الذي بُخس حقه، وبالذات على عمارته التي لا يمكن أن تكون إلا نتاج حضارة عظيمة.

وعندما نتحدث عن اليمن أو عمارته فنحن نتكلم عن الإنسان اليمني الخلاق الذي صنع هذه الحضارة وفاض حباً وايداعاً ساعد أن تسمى بلده بالـ «سعيدة»، نتكلم عن الشعب الطيب الذي قلده رسول الله صلى الله عليه وسلم وساماً أبدياً حين قال:«لقد جاءكم أهل اليمن وهم أرق قلوباً وألين أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية».

أود أن أقول لموظف المطار وللعالم كله.. إن اليمن.. البلد المنقوش على الحجر.. بلد العمارة والفنون والزراعة والسدود والخزانات.. بلاد بلقيس وأروى.. و{إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد}.. اليمن ليس قاتاً.. ولم يعرف القات إلا منذ مائتي عام، وهي ثوان قليلة قياساً بعمر حضارته وعظمة تاريخه.

وبناء على ما سبق اسمحوا لي أن أدعوكم.. في الأعداد القادمة.. إلى بضع رحلات قصيرة إلى اليمن.. وقد سميت هذه الأوراق -بعد إذنكم-« أوراق من ذاكرة اليمن السعيد»، وأخبركم مقدماً أنني لن أستطيع أن أفي تلك البلاد حقها من الوصف، لأن اليمن تحتاج في تقديمها إلى شاعر أكثر من حاجتها إلى صحفي أو معماري.

[email protected]