الفقيد الأمير عبده عبدالكريم العبدلي .. عَبدَلُ الغَرام .. و التّشَرُّد في ثياب الغَواني

> «الأيام» جمال السيد :

> لا يُقَبض عميدُ غرامٍ ليلةَ أربعاء ... وتمدّد اللحجيّ إلى مدخل الخميس وأسلمها في خامس رمضان الخير2006/9/28م . هوذا أميرُنا يودعنا بقول السلطان الفضلي:با توكّل على الله، ذي عليه الوكَل ذي سا طرق في البحور الطامية للمسافر

ما با يفيد المداوي بعد أمر القدر ياهل البلد سامحوا (عثمان) باطن وظاهر

غادرنا شيخ الشباب .. غاب آخرُ العبادلة السامرين في روضة الأدب اللحجي ! حمل نعشه أربعةٌ ، ومن ورائهم (لرضي) و(البيسة) ورجلٌ على دراجته .. وسار السبعة بأميرهم إلى (ام جنّة) وواروه الثرى في جنح الليل، والليل صاحب الشاعر وخليله ...

مات فالج، والفالج الفحل، فلنربأ به عن التأبين ..

مات نظّامُ الأغاني، مات مطلوب الغواني، مات زرّاع المغاني ..

مات عبدل الغرام المتشرِّد في ثياب الغواني .. لقد طلَبَه من الدهر طالب الملوك ـ كما النابغة حين نُعي إليه النعمان.

يتسابقُ أعلامنا إلى الدار الآخرة ويكبرُ حزننا لأن الدهر نقّادَة لا يختار إلا الجواهر. هذه يده القادرة تتناول نفس (أبونا عبده) وتثنّي بنفس صديقه عبدالله هادي سبيت. علينا أن نعظم ضوءَ نارهما؛ فوالٍ لا تشدّ ظهره رعيّة يكون أمره رخواً، ووليٌّ لا تُبقَر له بطونُ المجاذيب يعيشُ بلا شأن في عالم الإيمان.

سافر آخرُ أميريٍّ يأكل المرار. قضى سبع عشرة سنة بحثاً عن (طين) أبيه وأجداده ولا فكّ صومُه رهنَ أرضه المنهوبة، ومات محسوراً واحتساها كَرَعاً مُسْبَعة..

وطمحت (بنت الصنعاني) الظفر بأجر تقبّل العزاء في أبيها الثاني، ورغُبَت في اقتحام البلاط السلطاني العَسِرِ المُرْتَقَى حتى حِلّ الموت، ونسيت (حفيدة درينة) أنه لا يجوز لغير القبيلي عمل (التشريفة) على رأس دارته ولو كان من الطاهرين .. وأمّا (الشرمانية) فبكت أبيها منفردة ، واستمتعت بحزنها عليه.... وهل تروقُ دفيناً جودةُ الكَفَنِ؟!

عاش أميرنا ومات رجلاً عزيزاً، لم يتخل عنه عنفوانه. يجمعه فعل الرجولة بشِبْهِهِ الحسين بن ناصر المحضار سلطان مرخة. حمى الأول الفقيد محمد عبده نعمان، أمين عام الجبهة الوطنية المتحدة رغم تهديدات الإنكليز، كما أخبرنا الجاوي، وحمى الثاني الثائر القردعي وصرّح:

حيّا الله الليله بشوف القردعي الشيخ ذي وزّع على الدنيا عيَاه

القردعي عندي ولا بدّيه حد الموت عند القردعي ، ولاّ الحياه .. وجاء العيد، وأرسل ولي العهد (عبدالله بن علي) إلى عبده عبدالكريم، وناوله نصّ الفقيه (يا ضارب الرمل) لتلحينه، وأطلّ صباح اليوم التالي وقد أكمل (صديق علي عبدالكريم اللدود) مهمته.

أراد الشاعر والملحن من السلطان العبدلي ما أراده المتنبي من الحمداني وكافور، وتشابهت أعيادهم .. قال الفقيه:

قالوا : أتى العيد، قلت البالُ منحرِفُ هلاّ أتـى العيدُ في داري وفي نُزُلي..... في حوطةِ المُلكِ لا في حَيطةِ الجبلِ

كان عبدالحميد من أهل العاطفة، اعتقد أن السعادة في ثياب الغواني، فصال في الخدور، وجال في القصور، وصاحب القامور .. سار نظّام القوافي وسْط تعكير النوافي، وله مع كلّ خميرة قصة .. وعند كل خَبْزَة خبر. سرى «على راس الحنش يدعس ونابه».. يرْقِي سعاد، ويجمِّش أسماء ، ويطلب المغفرة لفانوسة ..كان مبتغى الجميلات، كنَّ يطلبنه ويخطبن ودّه ويأمِّرنه على قلوبهنّ .. وهو كريم في حبّه، سخيُّ في عطائه: منهنّ من تستحق حبّه ، ومنهنّ مَن يستحق حبها :

المال والمكسب/ والروح يا أشنب/ فداك لا تتعب / ما شان حزنان ؟

إنه لحجيٌّ قح كل مقصده أن يرى محبوبه هانئاً ، سالياً ، طرباً، سالماً إلا من الهوى:

دمت ياورش هاني/ وكل شي فانِ/ وباك يا غاني / سالي وطربان

بشقـى وبتكبّد/ لما قدك تسعد/ وتبلغ المقصد/ يكون ما كان

في مفهومه أن الحب يوحد القلوب؛ والحب كالموت يساوي بين منجل الفلاح وتاج الملك، فليس أمام الحب عبد ولا أمير . في سوح العشق وحِلّ ساعته أدني ظهره وبارى ابن عمه في الدنوّ والتواضع فقلّد المحبوب (نشان الساق):

وعد اللقاء بيننا في ساعة التّشريق لو با يقع له يصفّق لي من الطاقه

ياهل الهوى والمحبة كثّروا التصفيق بفعل لخلّي نشان الساق في ساقه

(أبونا عبده) شاعر غنائي، جُلّ نظمه في الغزل وهو مختصٌّ في النسوان. قال شيخ الأدباء :«ليس الغزل في معانيه الطريفة، ولا في لغته اليابسة. الغزل ملاكه عاطفة متّقدة يسعرها الحرمان ، ويُذكيها التحرّق ويُعَبّر عنها بكلام بسيط بسّام غير جهم». قلت : فأما الحرمان والكبت الذي يرهف حساسية الشعراء فما ذاق منه أميرنا سوى قليل. كان وصاله متواصلاً فخلا شعره من العاطفة المشبوبة. كان الهوى زاده وزوّاده ، يغترف من بحر الغرام بالتنك حين يعزّ وجود الدلو. الحبّ عنده نارٌ آكلة:

أذبت شدّة لوعـتي بالضم واللثم العديـد

في وجه أبلج حينما لاقيـت إيداً فوق إيـد

قبلات فيها نـار من جـوفي مُذيـبة للحديد

أودعتها خـد الوِرِشْ وأصبحت نـاري خميد

نلمس حرارة العاطفة في قصائد معدودات نظمها في مرحلة شبابه، فيها نشعر بتحرّق ولوعة.. كذلك نلمسها في أغانيه التي نظمها في ديار الغربة . هناك بلغ الشوق قرارة نفسه؛ فسالت أشواقه دفوراً شقّقت أعبار الغرام كما في غنائيته (سرى الهوى).

بدأ الظلامُ، وخَبَطَ السحابُ بعضَهُ فوق هامة الشاعر فاستحال فالجاً. في ليل الغربة يجتاح الشاعر شوقه لبلدته، وينسكب سيلاً على (رأس الفؤاد)، وتتراكم أشجانه، وتتزاحم هواجسه؛ ويغدو قلبه المُضنى بالحنين قطعةَ أرضٍ زراعية، ويحلّ رأسُ الفؤاد محلَّ (فالج)، يفيض شوقه المتدفق ليروي (رواد القلب)؛ وتشتعل في «الكِبَاد» نارٌ آكلة في معادلة عجيبة يعلن فيها الحنينُ والهوى الجهادَ على صبر صاحبهما؛ على المنفي مَن لم يعد يقوى على كبت أشواقه:

سرى الهوى ركّب عَشِيْ يمطر على راس الفؤاد

وسـال سيل الشوق سقّى طين قلـبي والرواد

وهيّج الخـاطر، وشبّت نـار في وسْطِ الكِباد

حنين قلبي والهـوى أعلـن على صبري الجهاد

تلبدت في أفق شاعرنا الهموم سحباً ماطرة واعدة بالخير والخصب. يحلّ عليه الليل وتحاصره الوحدة والغربة وتتراكم الهموم على قلبه كالسحاب، وينزل مطر الهوى على نار الشوق فيذكيها ويسيران معاً يشيّعهما نغمٌ متآلف شكّلته أحرفُ اللين والمد، فأبرزت هذه الموسيقى الداخلية المعنى، وكان النغم في الحروف قبل أن يكون في الوتر. إيه، لقد حملت القصيدة لحنها في أحشائها؛ فنظمُها يسير على إيقاع (المركّح) في مياه بحر الرجز.

لقد أفلح في تسكين القافية مضاعفاً همّه وشوقه بعد تنفيس. غاب التشبيه وتألقت الاستعارة، وسار الحزن صادقاً في كل بيت وبلغ ذروته في مناجاة الشاعر لدهره :

قسيت يا وقتي كثير، وزاد فحْسَك والعِناد تنذرْ وتتوَعَّد تقوُل لي يا أدادك بالأَداد

عاش زهير ثمانين حولاً وسئم، وضاق لبيد من سؤال الناس عنه، أما هذا العبدلي فقد جاوزها بخمسٍ؛ وكان محباً للحياة، مقبِلاً عليها ، مُحِبّاً للآخرة لا يقطع منها سبباً ، وبقيَ طريّاً حتى ليلة زاره عزرائيل، ومات بشيبةٍ صالحة، وبشيخوخة حلوة إذ ظلّ العقل في الرأس.

? محاضر الأدب الإنجليزي - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى