«الأيام» تتجول في محكمة طور الباحة ..مبنى حديث بلا خدمات ولا أثاث وقضايا ومعاملات تتكدس أمام قاض واحد

> «الأيام» علي الجبولي :

>
مبنى محكمة طور الباحة
مبنى محكمة طور الباحة
في المحيط الشمالي الشرقي للمدينة ينتصب مبنى متواضع هو مبنى المحكمة الابتدائية والنيابة العامة بمديرية طور الباحة, ويعد ثاني مبنى قضائي حديث في محافظة لحج. يجذبك منظره الخارجي لكن ما إن تدلف إلى أروقته حتى يخيّب ظنك وضعه الداخلي. شيد المبنى بتصميم حديث يلائم طبيعة وظيفة المحاكم، بلغت تكلفة إنشائه نحو 20 مليون ريال ومنذ افتتاحه في 2001م لا يزال يفتقر لأبرز الخدمات وأهم الأثاث.

يتكون المبنى - إضافة إلى غرف النيابة الثلاث - من غرف الدوائر الثلاث بالمحكمة، الجنائية، المدنية، والأحوال (جميعها بلا قاض عدا رئيس المحكمة) وحجرة أرشيف وبهو انتظار وقاعة محاكمات وقفص اتهام وغرفتين للسكن وملاحق أخرى.

هذه المكاتب تكاد تكون على البلاط - حسب تعبير إخواننا المصريين - لافتقارها لمعظم الخدمات والأثاث.. خلال تجوال «الأيام» في ردهات المحكمة وداخل مكاتبها التقطت بعض المشاهد لعل أبرزها ازدحام المواطنين وغياب الخدمات والأثاث ونقص القضاة. كما التقت فضيلة القاضي محمد سعيد سالم، رئيس المحكمة للتعرف على أداء المحكمة والصعوبات التي تواجهها. فإليكم خلاصة ما رصدت.

تفاقم الوضع حتى أوشك المواطن أن يفقد الثقة بالقضاء، فعلى مدى سنتين كاملتين تحولت المحكمة إلى ما يشبه مكتب عقاري تخصص لتوثيق ملكية الأراضي وعقود بيعها أو التنازل عنها، وفي المقابل مماطلة وتسويف في قضايا المواطنين ومعاملاتهم حتى تكدست في الأدراج وضاع منها ما ضاع، واستشراء الابتزاز والسمسرة.

هذا الوضع أجبر بعض المتنازعين على هجر عدالة القانون والفرار إلى التحكيم العرفي (القضاء العرفي) حتى في الجرائم الجسيمة وما لا يجيز الشرع والقانون التحكيم فيها.طغى التحكيم العرفي على الاحتكام للقانون هناك من استغل الوضع لإضعاف دور القانون وبرز من يستغلون نزاعات المواطنين للتكسب من خلال عرض أنفسهم مُحكّمي عرف رغم افتقارهم للخبرة والنزاهة والإلمام بالشرع والقانون. ورغم فساد أكثر مخرجات العرف وخطره على تعزيز دور القانون بين المواطنين لجأ إليه كثير من المتنازعين، وغالباً ما فشل التحكيم العرفي في حل النزاعات حلا صحيحاً وتسببت مخرجاته بتفاقم النزاعات وإشعال فتيلها ونحى بها منحى خطيراً.

انشغلت المحكمة آنذاك عن قضايا المواطنين ومعاملاتهم بتوثيق عقود الملكية في أراضي خبت الرجاع وفي مناطق شاسعة خارج نطاق اختصاص المحكمة في صحارى شمال وغرب عدن وغرب الوهط وشرق مديرية المضاربة وثقت خلالها تحت مسميات عديدة مئات الكيلومترات لمدعين بالملكية سطواً وتزويراً وتحايلاً تحت مباركة وإيعاز نافذين وسماسرة في السلطة المحلية وثقت عقود انتفاع بواقع ثلاثة فدانات لكل منتفع، وزعتها السلطة المحلية، وإما عقود تمليك بدعوى ملكية القبيلة لتلك الأرض، وسرعان ما عادت المحكمة لتوثيقها من جديد تحت مسميات تنازل أو بيع لمافيا المضاربة بالأراضي ومستثمري البقع الذين تكالبوا على شرائها بثمن بخس لا يصل إلى عشرة آلاف ريال للفدان الواحد.. حتى المقابر وأراضي الأوقاف ومحارم المرافق الحكومية بل حتى حرم المحكمة ذاتها وأراضي المواطنين في طور الباحة لم تسلم من هذا النهب والتزوير.

رئيس المحكمة ينظر إحدى القضايا
رئيس المحكمة ينظر إحدى القضايا
وجه محافظ المحافظة وقيادة السلطة في المحافظة بوقف توثيق الأراضي، وثارت مشاكل كثيرة وأحيل نفر من عصابات الأراضي إلى النيابة ثم المحكمة دون جدوى. تحولت المحكمة إلى مكان سمسرة وابتزاز عصي على المواطنين أن يحصل منه على حكم انحصار ورثة أو تعميد توكيل إلا بعد تردد وإنهاك ودفع مبالغ كبيرة. هذا الوضع لم يستطع المواطنون معه صبرا فرفعوا عديد شكاوى للقضاء والسلطة المحلية دون جدوى، حتى تصاعد إلى اعتصامات تصرخ من فساد المحكمة وتطالب بتغيير القاضي، وهو ما تحقق لهم بعد جهد ومشقة في يوليو الماضي حينما كلف القاضي محمد سعيد سالم، رئيس دائرة الأحوال بمحكمة الشيخ عثمان، رئيساً لمحكمة طور الباحة.

لم يقف تدهور أداء المحكمة عند الجانب المسلكي للقائمين عليها وما ترتب عليه من انفلات، ولكن تدخل عامل فني ايضاً تمثل في نقص القضاة وقلة الإداريين والموظفين وافتقارها لخدمات ضرورية مثل الكهرباء ونقص الأثاث حتى اليوم. فمن يلج المحكمة يدهشه خلوها من خدمات الكهرباء والنظافة والحمامات الصالحة، ونقص الأثاث عدا مقاعد متهالكة وخلو قاعة المحاكمات وبهو الانتظار من مقاعد الجلوس وافتقار ساحة المحكمة للمظهر الجمالي من رصف وتشجير ونظافة.

تكدس القضايا

عن أسباب شدة الازدحام اليومي في المحكمة وحجم القضايا المنظورة أمامها والتي أصدرت بها أحكاما، يقول القاضي محمد سعيد سالم، رئيس المحكمة: «حينما تسلمنا المحكمة في 10يوليو الماضي كان هنا 138 قضية حبيسة الأدراج أي مرحّلة من الفترة السابقة منها 27 قضية مدنية، 13 أحوال شخصية، 98 قضية جنائية، ثم وردت إلى المحكمة 74 قضية ليصل إجمال القضايا أمام الدوائر الثلاث بالمحكمة إلى 212 قضية، حكم في 32 قضية أحوال، و6 قضايا جنائية و3 قضايا مدنية، وبقية القضايا إما محجوزة للحكم أو قيد النظر.. سبب ازدحام المواطنين في المحكمة لكثرة القضايا وتنوعها في دوائرها الثلاث: أحوال، جنائي مدني، ودعاوى التنفيذ، واعتماد المحكمة على قاض واحد وهو رئيس المحكمة في تولي النظر في جميع القضايا، وهذا سبب أيضاً تراكم القضايا.. إضافة إلى متابعتهم لإنجاز المعاملات الأخرى: التوكيلات، التوثيق لمختلف الطلبات، ولعدم وجود قاضي توثيق مختص كلفت أحد الموظفين الإداريين بمهام التوثيق تحت إشرافنا المباشر مع أن هذا يربك عملنا ويهدر كثيرا من وقتنا».

من خلال الكم الكبير للقضايا أمام المحكمة (212 قضية) والعدد الضئيل للقضايا التي حكم فيها (41 قضية فقط) يبرز حجم قضايا المواطنين التي لم تنجز. سألنا القاضي محمد سعيد عن أسباب هذا التأخير الذي كدس القضايا.

وكيف ستحله المحكمة؟ فرد: «استلامنا للمحكمة صادف أن تلته إجازة قضائية لشهري شعبان ورمضان، وعقب انتهاء الإجازة عملنا على جدولة القضايا على أيام العمل الأسبوعي، ونظرا لكثرة القضايا الجنائية الجسيمة خصصنا السبت والاربعاء لها بعد أن كان السبت خاصا للعمل الإداري ومقابلة المواطنين، وحددنا يوم الاحد للنظر في قضايا الأحوال الشخصية، والاثنين للقضايا الجنائية غير الجسيمة. أما القضايا المدنية والتنفيذ المدني فخصصنا لها يوم الثلاثاء».

كثيرا ما نجد قضاة محاكم يشكون من تدخل نافذين في عدل القضاء بهدف تضليل العدالة أو تعطيلها، وفي محاكم أخرى يشكو قضاة من ضعف دور الأمن أو من قصور أداء النيابة الذي يعرقل إنجاز القضايا وتنفيذ ما يصدر عن القضاء باعتبار الأمن والنيابة أجهزة تكامل مع القضاء وبدون تكامل العلاقة بين أجهزة العدالة يصعب تحقيق العدالة. سألنا القاضي عن نوع هذه العلاقة، وعما إذا كانت المحكمة تواجه تدخلا في عملها من أية جهة، فقال: «علاقتنا بالأمن والنيابة جيدة ولم يظهر حتى اليوم أي قصور منذ تسلمنا رئاسة المحكمة، وللأمانة لم نلمس أي تدخل من أية جهة كانت في عمل القضاء.. أعتقد أن الناس استوعبوا معنى استقلالية القضاء وصاروا يحترمون هذه الاستقلالية وحتى وإن ظهر مثل هذا التدخل مستقبلاً فلن ننظر إليه أو نأخذ به».

التقاضي وقوفا في قاعة محاكمات بلا مقاعد
التقاضي وقوفا في قاعة محاكمات بلا مقاعد
وحول كيفية تعامل المحكمة مع ما يصدر عن التحكيم العرفي قال:

«لم يرد إلى المحكمة حتى الآن أي أحكام صدرت من محكمين عرفيين وإن أتت فإن المحكمة غير مختصة بتعميد وتقييد مثل هذه الاحكام. أما اتفاقات الصلح إن كانت متعلقة بنزاع منظور أمام المحكمة وارتضاها المتنازعون بمحض الإرادة فتعمدها المحكمة وترفقها في محضر الجلسات، أما اتفاقات الصلح والمكاتبات بين المواطنين ولا خلاف حولها، فتكتفي المحكمة بتعميدها».

حارس بلا راتب منذ 12 عاماً

ويجمل القاضي محمد سعيد أبرز الصعوبات التي تعانيها المحكمة قائلا: «نقص القضاة، إذ أن القضايا التي ترد إلى دوائر المحكمة الثلاث وكذا أعمال التوثيق يتولاها قاض واحد، نقص في الكادر الإداري وسبق أن طالبنا برفد المحكمة بحاجتها من الإداريين لتسهيل إنجاز أعمالها بالصورة المطلوبة وكذا نقص موظفي الخدمات إذ إن المحكمة بدون حارس في الليل، وهناك شخص أمضى 12 سنة حارساً متطوعاً على أمل توظيفه ولا يزال حتى اليوم بدون وظيفة وكل ما يحصل عليه حافز ضئيل يصرف له من مخصص نفقات تشغيل المحكمة.

نأمل من وزارة العدل والتفتيش القضائي إعادة النظر في التصنيف الإداري المحدد في اللائحة التنظيمية الذي صنفت بموجبه المحكمة في الفئة (ج) فالنطاق الجغرافي لطور الباحة واسع وكثافتها السكانية تحتل المرتبة الثانية في محافظة لحج بعد مديرية الحوطة عاصمة المحافظة، وهذا التصنيف غير منصف ولا يتناسب مع الكثافة السكانية والحجم الكبير للقضايا التي تنظرها المحكمة».

المحكمة بدون كهرباء وتفتقر لأهم الأثاث

ويواصل حديثه: «تفتقر المحكمة إلى الكهرباء وغياب هذه الخدمة يضر كثيراً بأدائها حيث إن المنطقة بكاملها تفتقر لخدمات الكهرباء خلال النهار، كما تفتقر إلى النظافة وتشجير ساحتها ووجود حمامات صالحة وإلى أهم الأثاث مثل الكمبيوتر، آلة تصوير، فاكس وأثاث قاعة المحاكمات وغيرها.. أعتقد أن محكمة طور الباحة المحكمة الوحيدة بدون سيارة موصلات ونسافر يومياً من مدينة البريقة بمحافظة عدن بواسطة المواصلات العامة وعلى حسابنا ونواجه صعوبة في التنقل حتى أن مخصص نفقات التشغيل للمحكمة لو سخرناه بكامله لنفقات المواصلات لن يفي حيث إن هناك موظفين آخرين يأتون من خارج طور الباحة.

وأخيراً ضآلة النفقات التشغيلية للمحكمة والتي لا تزيد عن 45 ألف ريال بعد أن خفضت من 50 ألف ريال منذ يوليو الماضي بحجة أن الوزارة تسدد فاتورة استهلاك الكهرباء، مع أن المحكمة بلا كهرباء منذ إنشائها بل لا توجد كهرباء في منطقة عملها».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى