لعنة الصمت

> فاروق علي ناصر:

> «الزنبقات السود في قلبي/ وفي شفتي.. اللهب/ من أي غاب جئتني يأكل صلبان الغضب؟/ بايعت أحزاني وصافحت التشرد والسغب/ غضبٌ يدي.. غضبٌ فمي.. ودماء أوردتي عصيرٌ من غضب/ ياقارئي.. لا ترجُ مني الهمس/ لا ترجُ الطرب/هذا عذابي.. ضربةٌ في الرمل طائشةٌ/ وأخرى في السُّحب/ حسبي بأني غاضبٌ/ والنار أولها غضب!»

محمود درويش

مدخل خاطف

هذا مقال آخر قديم بالعنوان نفسه كتبته في صحيفتنا «الأيام» (بتاريخ 97/8/20 العدد 386) سيرى القارئ الكريم أن البعض كان يقرأ لكن لا يصدق، بل تمادى علينا البعض بأننا -أنا والأعزاء في «الأيام»- نضع العقبات والمطبات أمام الإنجازات المذهلة، ولم نكن نرى من الإنجازات غير إنجاز واحد يدعى (الصمت الجبان) ولولا هذا الإنجاز لما أصبحت المقالات القديمة صورة واقعية لما حدث إلى الآن.

بعض الزملاء الأعزاء قالوا: لقد عدنا إلى الوراء عبر المقالات القديمة وكأننا نقرأها لأول مرة.. هنا يكمن العيب حين يقرأ الإنسان دون أن يتفحص الواقع المعاش.. بالنسبة لي ولصحيفتنا «الأيام» لا أرى سوى قول قرأته منذ زمن بعيد عندما كنت في سنة أولى جامعة في القاهرة.. هذا القول لصق في ذهني، وأتمنى اليوم أن يفهمه القارئ «إنما الأعمال تاريخ الفتى ..تقرأ الأجيال فيه ما كتب» مقال اليوم تأملوه، افهموه، ستعرفون معنى الصمت وعار الصمت على الباطل.. وأن رفض وفضح أي باطل مهما كان الثمن هو الطريق الوحيد لتمشي منتصب القامة مرفوع الهامة وتقرأ الأجيال عنك أنك لم تساوم، بل ظللت تقاوم من أجل حياة حرة كريمة، ومن أجل بقاء المدينة الغالية (المحروسة عدن) زهرة المدن كلها متحدياً الدنيا كلها من أجلها، وكشف كل حاقد عليها.

المقال دون زيادة أو نقصان

حتى لا نستمرئ الصمت الذي يستثمرنا، لابد أن تبقى هذ القضية مفتحة برغم الأحداث التي تدور في سماء وأرض الوطن.. وحتى لا تختفي معالم المدينة خلف لعنة الصمت! كتب الزملاء الأعزاء وكتبنا عن التشويه الجاري لمدينة (عدن) عن أكل الجبال، عن ردم البحر وطمسه، عن جز شعر المدينة الجميل، وعندما كتبوا وكتبنا عن الصمت المريب تجاه ما يجري ويدور من باطل، قالوا عنا:مغني جنب أصنج.. وقلنا:«عفوا مغني جنب أدعياء صنج!» لأن الذي يجري أمامنا من طمس لا يعني سوى أمر واحد: وهو أن النية قد عقدت على تغيير وجه المدينة (عدن) وإنهاء أي أمل في تنظيمها وتطويرها وحتى تبقى في (ذيل) القائمة!!

دعونا نتساءل: إذا كانت القضية قضية إعمار فلماذا لا تتدفق السيولة المالية وتشمر السواعد لبناء مدينة من العدم؟! عندما تعمر المناطق الجرداء على سبيل المثال لا الحصر، منطقة (العريش) وتخلق فيها البنايات والفلل وتتوافر فيها كل مستلزمات الحياة العصرية من خدمات (مياه، كهرباء، وتليفون.. الخ) يصح القول:«شيدنا مدينة وخلقنا الإعمار في الأرض الجرداء.. نعم ورب محمد مثل هذا الإنجاز يحق أن تقرع له الأجراس.. أما البناء داخل المدينة وفوق صدرها، على قلبها وبين جوانحها في بحارها وجبالها، بين شوارعها وفوق أرصفتها وعلى عين ناسها وأهلها.. فهو التشويه المقصود أو الإعمار المشوه!! أليس كذلك؟!

إن الاستثمار العقيقي والجاد، لا يأتي عن طريق أكل الحبال ودفن البحار نعم لا يأتي عبر بوابة (التشويه والطمس) ولكنه يتجسد في ذلك العمل الخلاق الذي يحد من تسرب النقد الأجنبي إلى خارج الوطن هو الذي يوفر احتياجات الوطن من العملات الصعبة، هو الذي يغير معالم أرصفة البطالة، وهو الذي يوسع الرقعة الزراعية ويطورها.. وهو أيضاً الذي يخلق صناعة إنتاجية حقيقية!! هذا الاستثمار (الجاد) يواجه اليوم المشاكل والصعوبات المفتعلة حتى يبقى الطريق مفتوحاً لمن يريد أن (يطلي) البحر و(يخيط) السحاب.. لمن يحرث النهر ويأكل الجبال!!

ويبقى الحديث عن (المنطقة الحرة) مجرد نغم جميل يساعد على «السمر» في الليالي الحالكات مجرد وهم وخيال شاعر لأن (المنطقة الحرة) في العالم لا تخرج من بين أحضان العشوائية والتشوية والفوضى.. لكنها تولد من رحم التخطيط والتنظيم والرغبات الصادقة المصحوبة بعزيمة التنفيذ الخلاق!! لا تحلموا بمنطقة حرة، لأنكم لن تحصدوا في نهاية المطاف وعلى أحسن الفروض إلا على ميناء لاستقبال «الحاويات» هذا لو بقى بحر لميناء عدن!!

لأن (عدن) كما يبدو واضحاً هي (الممر) الذي يمهد الطريق للمدينة (الموعودة) تلك التي لم يردم بحرها ولم تطوق شواطئها أو تؤكل جبالها، ولم تضيق مساحتها، تلك (المدينة) التي لم تصبها بعد (لعنة) الصمت.. إن الباطل لا يمر مرور الكرام إلا إذا أصابت الناس (لعنة) الصمت.. والمدينة أشاحت بوجهها عنا، لأننا صمتنا وصمتنا حتى تغير وجهها، وحين أفقنا وشاهدنا نتائج صمتنا، هربنا إلى «الصمت» الذي أصبح منا وفينا!!

1997/8/20م

الخاتمة

يا قارئي العزيز هذه وثيقة أخرى قارن بين تاريجها واليوم، بعدها تأمل الواقع المعاش.. أليست صحيفة «الأيام» العزيزة لا تدرك أن لديها من غيري (مقالات) أخرى، وأنها ستكون شاهدة على التاريخ من أجل الأجيال والتاريخ؟! لن أطيل عليك أيها القارئ العزيز الحديث حتى لا تكره الكلمات لأنها مرة مرارة العلقم.. فقط اقرأ ومتى شئت فكر في تاريخ المقال وتاريخ اليوم وتأمل واقعك الذي تعيشه!!

ويبقى قول الشاعر:

«منتصب القامة أمشي/ مرفوع الهامة أمشي/ في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي/وأنا أمشي.. قلبي قمر أحمر.. قلبي بستان/ فيه العوسج، فيه الريحان/ شفتاي.. سماء تمطر ناراً حيناً.. حياً أحيان/ وأنا أمشي.. أمشي/ منتصب القامة مرفوع الهامة/ في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي.. نعشي!»

عدن 2008/1/1

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى