رِدُوا هذا المنهل العذب!

> فضل النقيب:

> عن دار البارودي في بيروت، صدر الجزء الثاني من (المختار من الشعر الشعبي والأمثال)، للأستاذ صالح عمر محمد بن غالب، وكانت الطبعة الثالثة من الجزء الأول قد صدرت في 2007، ويشكر المؤلف الفاضل على هذا الدأب والمثابرة والتنقيب في الذاكرة الشعبية اليمنية، التي تتجه إلى التدوين والتوثيق والغربلة والإحاطة والتبويب، تمهيدا للقراءة والدرس، وتوسيع أفق البحث والاستخلاصات الفنية والاجتماعية، وربطها بأدوار التاريخ، واستكشاف بصمات المبدعين الذين مثلوا دور النجوم الساهرة والهادية، وحَمَلَة القيم الصاعدة من أعماق ضمائر الناس النازعة بالفطرة السليمة إلى الحق والخير والجمال في مواجهة التشوهات الأخلاقية والانحرافات البنيوية، وأطماع وتحريفات المقامرين والمغامرين الذين يخرجون عن الناموس، ويلبسون الحق بالباطل، ويضعون كل ما هو نظيف وشريف في مرمى النيران وعلى منصات الإعدام الفكرية.

وطالما هي الحياة الواقعية تكشف عن الوجه مرة وعن القناع مرة أخرى- ولكل من الوجه والقناع مريدوه ومنظروه ومسوغو دوره- فإنه لابد من المواجهة الدائمة بين التصحيح والتصحيف، بين الخُلُق النبيل والتطبع الذميم، بين الإحسان والإساءة، بين تأصيل المعروف وانتهاز الفرص، بين زرع شتلة لتغدو شجرة مثمرة، واقتلاع سنديانة، أصلها ثابث وفرعها في السماء، لتُنخر وتذروها الرياح.

الشعر الشعبي الذي يمكث في الأرض ينفع الناس، وما كان سقطا منه فكالزبد يذهب جفاء. ونحن مع (المختار) في ميادين فروسية وينابيع حكمة، ونفحات حب، ومباريات ذكاء وجمال خيلاء، وعذوبة ماء، وشموخ كبرياء، وأنات مقهورين، وصرخات مقبورين، وأحلام مدحورين. أناس يتطلعون إلى الغد، إلى الحلم، إلى الأمل، وآخرون يلوون رقابهم إلى الخلف، إلى زمن ساد ثم باد، بعد أن ظن أربابه أنه باق إلى الأبد.

الذين يجلسون على المنصة لايلتقطون الإشارات، وتعميهم شجرة الزُخرف عن رؤية غابة الأبدية التي تتجدد مع الفصول، وتتطور مع تطور العقول. الشعر الشعبي الأصيل يقف على البرزخ، يجتذب هذا إلى الجنة، ويدفع بذاك إلى الجحيم، إنه يبشر وينذر ويذكّر ويتذكر ويعبّر ويستعبر، ويظل شاهدا على قامات يشار إليها بالبنان، لم تبتلع ألسنتها عند الخطر، ولم تفتح جيوبها حين البطر. كم بودي أن أستعرض، ولكن المقام لايتسع، ولكنني أقول لكم رِدُوا هذا المنهل العذب، تذوقوا اللغة، أنصتوا للحن، غوصوا في المعاني، ابتعثوا تجارب هؤلاء المبدعين في تجاربكم، واستعينوا بهم على البلوى وعلى قاصمات الظهر، مما يأتي به الحدثان، ويجترحه الإخوان، ممن يطفّفون في الكيل ويُخسرون الميزان!.

من مائدة الأمثال: «من زرع الحيلة صرب الفقر»، فالمرء لايجني من الشوك العنب. «من شب على شيء شاب عليه»، ذلك أن (الفالصو) قد يلمع كالذهب، ولكن إذا لفحته النار ومحصته التجربة يكشف زيفه. «لو دريت ما سريت»، ذلك أن بعض التجارب لاتورث سوى الخيبة والبوار، لذلك «ساعف الجيد ولو تعبك ولاتساعف الفسل ولو أركبك»، و(المساعفة) هي الرفقة والمصاحبة. ومن أين للإنسان أن يعرف ما وراء الحُجُب إذا لم يلهمه علام الغيوب؟!.

من مائدة الشعر: الشيخ علي ناصر القردعي من قبيلة (مراد) المشرقية، سيرة ناصعة وبطولة نادرة وعزم أكيد وشعر كهندوان الحديد. كان ندّا للجبروت الإمامي، مع أنه فرد في وجه دولة، فلا نامت أعين الجبناء، وقد هرب من سجن الإمام يحيى بن محمد مع زميله علي عبدالرب الحميقاني، وعندما لاحت له جبال بيحان (مقر آل العريف الذين لجأ إليهم) قال بيتيه الشهيرين:

ياذي الشوامخ ذي بديتي *** ما شي على الشارد ملامة

قولي ليحيى بن محمد *** با نلتقي يوم القيامة

وأعجب من قول القردعي الشارد المطارد المهموم المسلم أمره إلى الله، لكأنه النابغة الذي خاطب النعمان بن المنذر:

وإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

أقول، أعجب منه عاقل (مرخة) السيد ناصر بن محسن المحضار، الذي أطعمه من جوع وآمنه من خوف، وخاطبه مخاطبة الأفذاذ للأنداد من ذوي العهود وصادقات الوعود:

حيا الله الليلة بشوف القردعي الشيخ ذي قسم على الدنيا عياه

القردعي عندي ولا بدّيه حد والموت عند القردعي والا الحياه

هذا هو الإلهام الذي يبقى من عظماء الرجال، يضربون الأمثال للناس (ولله المثل الأعلى). إنهم ملح الأرض وواحدهم ندارة الظلماء، «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر».. شكرا لأستاذنا جامع الديوان الشيخ صالح عمر بن غالب، وكم أتمنى ويثلج صدري أن أرى هذا السِفْر في كل منزل. إن من الكلام لسحرا، وإن من الشعر لحكمة.. وسامحونا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى