حديث مع السلطان علي عبدالكريم.. تُرى هل يذكره.. ؟

> أحمد شريف الرفاعي:

> كل شيء كان يبدو وكأنه حلم...لقد رأيت لحج عشرات المرات وعشت فيها عشرات الأيام.. ومع ذلك فقد خيل إليَّ في ذلك اليوم بالذات أني لم أرَ لحج كلها.

إن لحج التي رأيتها لم تكن سوى لحج الشعب.. الأزقة الطينية الكالحة والأفاريز المعتمة الغبراء، والذباب والناموس والبؤس المنتشر في كل مكان كأنه طابع الحياة ولونها في هذا الصقع الأخضرالحبيب من جنوبنا.

حتى كان ذلك اليوم .. يوم هادئ من أيام رمضان التي ينام الناس فيها عند مشرق كل يوم.. لماذا بدأ قرص الشمس يتحول إلى سائل أصفر مذاب..يصبغ السماء بلون الوهج دبت الحياة في النفوس الصائمة المكدودة واستيقظت الحياة مع دبيب الليل الساري في الليالي الفائضة المحمومة.

وكانت الشمس في النزع الأخير.. وكنا مجموعة من رجال الصحافة والمشتغلين بالمسائل العامة.. وعلى وجه التحديد: السيد محمد علي الجفري، والزميل عبدالرحمن جرجرة،وأنا، جمعتنا سيارة (جيب) أنيقة كانت تقطع الطريق الأسفلتي من عدن في مسيرها نحو لحج، فقد كنا ضيوفاً على عظمة السلطان عبدالكريم.

وطالعتنا مشارف لحج.. وفي قصر السلطان .. ذلك القصر الرابض بمعزل عن الشعب، كنا نجلس في حديقة القصر في انتظار انطلاق مدفع الإفطار، وبعد الصلاة أفطرنا ثم بدأ السمر.

كل شيء كان يبدو وكأنه حلم.. القصر الكبير.. بثرياته وسجاجيده ورياشه وأصحابه.. المائدة العامرة والحياة المترفة الارستقراطية.. صورة متكاملة لليلة من ليالي الرشيد.. كانت كل هذه المشاهد هي الجانب الآخر من لحج التي لا أعرفها ... لحج الارستقراطية والطبقة المالكة.. لحج التي ليس بينها وبين لحج الشعب أي رابط أو أية صلة.

وتعرفت على السلطان... ولم تكن هذه المرة الأولى التي أرى فيها سلطان لحج.. ولكنها المرة الأولى التي اقترب فيها من سلطان لحج وأعرف فيها سلطان لحج وأتحدث فيها مع الرأس الكبير للسلطنة الشقيقة.

وبدأت أفهم السلطان وهو يتكلم ثم بدأت أحس به ونحن نجلس معا في رحبة من رحاب القصر، فقد ربط بيننا الحديث .. وانعزلنا عن بقية السمَّار, وحيدين نتحدث حديثاً كالهمس.

وجرفنا تيار الحديث وأخذنا بعيداً... بعيداً جداً عن شط السمر الذي يعج بالصخب والجلبة والقهقهات التي كانت تترامى إلى مسامعنا في عزلتنا تلك كأنها آتية من الضفة البعيدة.

ولم يقترب أحد منا كأنما أحس الجميع أن عزلتنا يجب أن تحترم.

واستطعت أن أحس بالسلطان، فهو لم يكن أبداً ذلك التمثال الأسمر الجميل الذي شاهدته في بعض الحفلات كأنه تحفة .. كأنه دمية.

وهو لم يكن أبداً ذلك الشاب الصغير.. الفارغ الذي يغرق في الترف دون أن يحس بمتاعب الحياة من حوله دون أن يشعر بالأمواج التي تتقاذفه وتجرفه ثم تطيح به بعيداً بعيداً كأنه قشة في زحمة الموج الصاخب اللجب.

وكان السلطان يتألم .. كان حديثه يخرج من فمه بعد أن يكون قد مر بكل المناطق الحساسة المتألمة في أعماقة الجريحة، ونسيت أن الإنسان الذي يجلس أمامي هو السلطان.. هو الجانب الآخر للحج الغارقة في الترف سيد الطبقة التي تحكم وتهيمن وكأنها القدر.

وفي شجون الحديث .. وفي غمار الألم المبرح الذي كان يخرج من فم السلطان همسات لا صرخات .. وثورة كان يمنع عقالها من الانفلات بقية من أمل وإحساس باليأس، قلت للسلطان:

يجب أن تكون رجلاً أكبر مما أنت الآن.

إنك السلطان الوحيد المثقف بين مجموعة الحكام في إمارات الجنوب.

ولن تستطيع أن تكون هذا الإنسان الكبير، إلا إذا ضحيت.

وضعك الآن ليس تضحية .. إنه خرافة، فإذا أردت أن يشاركك شعبك الألم والأمل.. فإن أول دواعي هذه الإرادة أن تحطم هذه العزلة التي تعيش فيها.

العزلة هي سبب كل ما تعانيه وهي الينبوع الذي تتدفق منه متاعبك وآلآمك، وانت بحاجة لأن تحمل الشعب بعض هذا الألم الذي تعيش فيه لا أن تفرض عليه آلآماً جديداً لا يعرف مصدرها سواك.

إفتح أبواب قصرك للشعب أخرج إلى الناس.. شاركهم .. إبن معهم، أطلق حقوقهم الحبيسة... أعطهم الحرية .. وهبهم القوة حتى تكون قوياً بهم لاقوياً عليهم.

إن الذين يلوذون بقصرك ليسوا هم الشعب... إنهم المنافقون... والقليلون منهم هم الخلص... والإخلاص معدن نادر الوجود.

ونظر إليَّ السلطان وأنا أتكلم وأنا أتدفق... نظر إليَّ وابتسم ولم استطع أن أفسر ابتسامته.... لعله كان يستمع مني إلى أسطورة... أمله كان يعتقد أنني أتكلم كلاماً حفظته من الكتب.. كلاماً لم يشهده في خضم الواقع الذي كان يراه .. واليوم .. إن السلطان يحس وهو في منفاه بحاجته إلى شعبه... في هذه الأزمة.أتراه يتذكرني .. هل يتذكر ذلك الشاب الذي كان يحدثه عن عزلته.. وعن شعبه ذات ليلة من ليالي رمضان ..؟

العدد(2) في 10/ أغسطس/ 1958م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى