آراء في الحراك السلمي الجنوبي

> علي صالح محمد:

> قبل أيام جمعتني جلسة قات بعدد من الأصدقاء، وهم لفيف جميل من الأطباء والأكاديميين والوسط التجاري المثقف ولأهمية النقاش الذي دار من حيث المستوى والمضمون في مجمله ألخص.

ما دار من حديث لعل هناك من يستفيد منه في إطار تقييم الرأي العام للتعامل مع ما يقوله الناس بحكمة بدلا من إدارة الظهر وانتهاج مسلك المكابرة والعناد حد الاحتقار والاستخفاف، كما ظهر من قبل بعض المثقفين، وهو مايميز ثقافة ونظرة المستبد تجاه المستضعف، مع أن المستضعف في إطار جدلية تبادل الأدوار يتحول إلى مشروع قوة قادم لايجوز الاستهانة به أو التقليل من شأنه، كما تقتضي المسئولية الوطنية التعامل بحرص مع ما يجري والنظر بعمق إلى أسباب الظواهر ومضامينها.

ومع أن مواضيع النقاش كانت عشوائية ومتعددة، لكنها اتسمت بالرصانة والجدية لتعكس مستوى الحضور، وكالعادة بدأت من العام لتستقر في أغلبها عند موضوع الساعة المتجدد وهو ظاهرة الحراك الجنوبي والقضية الجنوبية وقرار الاتفاق بين السلطة والمشترك لتأجيل الانتخابات، ولتعميم الفائدة أكتفي بنقل أهم الآراء حسب ما يسمح به الحيز ليدرك البعض مدى الحراك حتى، إن كان في جلسة قات.

إن الحراك الجنوبي هو نتاج طبيعي وموضوعي لحرب 1994م ومن حيث المضمون يعتبر ردة فعل ورفضاً شعبياً واعياً لكل الممارسات التي لحقت بالجنوب منذ ماقبل الوحدة مرواً بفترة قبل الوحدة التي تحققت سلميا وطوعيا في عام 1990م وانتهت كمشروع وطني كبير بسبب حرب 1994م ومانتج عن هذه الحرب من ممارسات عدائية استهدفت الأرض والإنسان في الجنوب حتى اليوم وتلخص بعمق رؤية القوى التلقيدية في الشمال ونظرتها العدائية وأطماعها التاريخية تجاه الجنوب منذ وقت قديم واستطاعت من خلال حرب 1994م أن تظهر بوضوح النيات الثأرية المتأصلة في ثقافتها عبر قرون من الزمان.

إن الحراك يكتسب شرعيته وديمومته من عدالة القضية التي يتبناها باعتبار الجنوب كان كيانا شرعيا قائما وشريكا أساسيا وثنائيا ضروريا لاستمرار مشروع الوحدة الذي دمرته الحرب، والحقيقة تؤكد أنه لايمكن الحديث اليوم عن مشروع وحدة بعد أن تم إقصاء ثنائي وجوده بالقوة، وشأنه في ذلك شأن الطير الذي لايمكن له الطيران بجناح أو شأن النهر الذي لايمكن أن يجري على ضفة واحدة.

إن الحراك يقوم على قاعدة التسامح والتصالح التي تعني تجاوز آلام الماضي والاعتراف بحقوق الجميع وبالتنوع، وعلى الحراك في إطار ممارسة الديمقراطية الحقيقية أن لايستدعي أحدا ولايستثني أحدا وأن يوسع من تحالفاته وحواراته مع الجميع، وبالذات مع الأحزاب والقوى والتيارات السياسية، مهما كان الخلاف معها، باعتبار أن الخلاف لايفسد للود قضية، بل إن الخلاف ضروري لإثراء التنوع والتعددية في إطار جدلية (الوحدة - التنوع) باعتبارها مصدر قوة وتطور المجتمع المدني بعيداً عن العنف والإقصاء أو الاستئثار، ولعل في هذا الحراك بوادر تغيير حقيقية لتصحيح ما لحق من أخطاء بتجربة الثورة وبناء الدولة.

إن مهمة الحراك استعادة الحقوق المادية والمعنوية التي ينبغي أن ينعم بها الناس في ظل دولة يسود فيها النظام والقانون وتحترم حقوق الإنسان ومتطلباته المتنامية بلا تمييز أو إقصاء باعتباره أهم رأسمال، ولايجوز أن تأخذ القضية هنا بعداً جغرافيا بين جنوب وشمال أو بعداً طائفياً، بل بعداً حقوقياً سياسياً تاريخياً لأن الجنوبيين هم من سعى إلى مشروع الوحدة بعد أن تجاوزوا النظام القبلي في الجنوب، مع أنه كان يرتكز على الشورى، ووحدوا أكثر من 23 مشيخة وسلطنة، وأقاموا نظام دولة نعموا في ظله بحقوق كثيرة، وساد في ظله المجتمع المدني، وفقدوه بعد تدميره بالقوة، وفي الشمال لايزال النظام القبلي المرتكز على البابوية والتسلط الفردي هو السائد، ومن واقع هذا الاختلاف ينظر إلى اختلاف مهام القوى السياسية في الشمال ومهام القوى في الجنوب، وبهذا الاتجاه لايجوز التخوين أو التشكيك أو الخلط أو وضع الشروط والسقوف المسبقة تجاه بعض، بل العمل على خلق ظروف التكامل والدعم المتبادل بين قوى المعارضة والقوى التي تحمل مشروع التحديث وقيام دولة النظام والقانون، ومن هذا الفهم ينظر إلى القضية الجنوبية باعتبارها مدخلا حقيقيا لاستعادة المشروع الوطني الكبير، وعلى الجميع أن يتكاتف لاستعادة المشروع الوطني، كل من موقع وجعه.

إن سياسة العناد والمكابرة والهروب وترحيل الأزمات وعدم الاعتراف بجوهر المشاكل، هو النتيجة المنطقية والاستحقاق الطبيعي لخيارات الحروب التي تمت تحت شعارات (الجمهورية أو الموت، والوحدة أو الموت)، ولعل الأزمة السياسية الناتجة عن هذه الخيارات تفرض اليوم قبل غد التجاوب مع مطالب الآخرين، فهي خير وأفضل مما سينتج عن استمرار العناد والمكابرة وعدم الاعتراف، لأن القادم سيكون أسوأ مما نتصوره جميعاً، والنظام في تعامله مع القضية الجنوبية وقضية صعدة أشبه بمن يهيل الرماد على النار معتقداً بأنه قد أطفأ النار، ولكن النار لم تزل مشتعلة.

إن استمرار ظاهرة الاعتصامات والتجمعات الجماهيرية السلمية التي يتم قمعها من عدمه، ليست سوى شكل من أشكال الحراك، أما الحراك الفعلي فيرتكز على الموقف الواعية ومشاعر المعاناة وخيبة الأمل المكنونة في النفوس المقاومة والرافضة للوضع القائم وللواقع المفروض، وهو ما سيفرض أشكالا وطرقا للتعبير المتنوعة والكثيرة، ولكل شيء أوان.

إن اتفاق تأجيل الانتخابات يؤكد المدى الذي وصلت إليه الأزمة السياسية في البلاد بسبب الحراك الجنوبي، الأمر الذي أجبر السلطة على التحالف مع المعارضة لاتخاذ قرار التأجيل، وفي كل الأحوال فإن الانتخابات لم تعد تعني الحراك كثيراً، لأن عملية الانتخابات في مضمونها هي عملية شكلية وديكورية خاضعة لإرادة السلطة، وليس لإرادة الناخب، كما لايمكن أن يستقيم مفهوم الديمقراطية مع النظام القبلي البابوي السائد، والمشاركة فيها تعني شرعنة واضحة لحرب 1994م والقبول بنتائجها كأمر واقع، وإذا تم الاعتراف بنتائج الحرب فما الداعي للحراك أصلاً، لهذا فإن الموقف من الانتخابات هو عملية مستمرة ودائمة لحين يعود الحق وتنتفي أسباب الحراك في الواقع، ولكل حادث حديث.

عملية التأجيل تخدم النظام من واقع أن السلطة عاجزة عن تغطية المصروفات، لأن أي صرف في الظروف الحالية يعني سقوط الريال مجدداً في سلة التضخم الأمر الذي له انعكاسات سلبية خطيرة على الوضع المعيشي للناس هذا في ظل أزمة مالية عالمية لن يسلم منها أحد والأمر الآخر فإن السلطة تراهن على الوقت عل وعسى تجد في أسلوب المراوغة مايحقق لها بعض المكاسب، ومن ناحية أخرى وبالنظر إلى نتائج الانتخابات الرئاسية التي تعرف السلطة حقيقتها أكثر من غيرها، وبسبب من الأوضاع في الجنوب وفي صعدة، فإن الانتخابات لن تكون في صالحها كما لايمكن استمراءها في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة ومجيء أوباما الذي ينظر كما عبر في خطاب تنصيبه إلى جوهر الديمقراطية فيما تقدمه للشعوب من حقوق حقيقية لا شكلية، أما بالنسبة للأحزاب في المعارضة، فهي في كل الأحوال مستفيدة من التأجيل، لأن الوقت يساعدها للاتجاه نحو المزيد من تحقيق المكاسب، وإن في الحد الأدنى كضمان الوصول إلى البرلمان حتى بضعف الأصوات الحالية، ولهذا تصبح عملية الحفاظ على الديمقراطية والتعددية حتى وإن كانت شكلية أهم المهام بالنسبة لها، وذلك خير لها وأفضل من بقائها خارج اللعبة بلا مكاسب، مثلما كان الحال قبل الوحدة، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى علاقة البعض مع السلطة وأدوارهم ومواقفهم الداعمة لها في موقفها الاستراتيجي - التاريخي الذي يجمعهم تجاه القضية الجنوبية، وهذا واحد من جوانب الاختلاف الجوهرية بين مهام القوى في الشمال والجنوب، وبهذا تكون القضية الجنوبية قد فرضت نفسها في الواقع وحققت الفرز السياسي وعناوين القضايا وفرضتها بقوة على الجميع.

25/3/2009

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى