بالليل لبوزة.. بالنهار تاريخ!

> علي ناصر محمد:

> يقال لكل امرئ من اسمه نصيب.. وبالليل لبوزة ابن الشهيد الكبير راجح لبوزة وفي زمن المفارقات يرحل فجأة ربما عندما بات الليل عنوان الحياة في وطن يئن ولا يسمع أنينه.

رحل بالليل لبوزة رحيلا كما هو رحيل العظماء والكبار والقامات الباسقة، فمن امتلك ناصية الثورة لا تعنيه الثروة، ومن تربى في موئل الشهداء لا يهاب الموت، ولا يهمه أن يكون في معركة سلاح أو في معركة الحياة.. فقد نذر الرجل حياته لوطنه، ووضع رأسه في أكفه منذ البواكر الأولى للثورة والجمهورية وبناء الدولة الحديثة في الجنوب.. وأما الموت الذي تتعدد أسبابه، فذلك من اختيار المولى عز وجل ومشيئته.

رحل إذاً الفقيد بالليل لبوزة بعد كفاح ونضال طويل خاضه من أجل تحرير الجنوب من الاستعمار البريطاني، وكان خير خلف لخير سلف، صادقا شريفا لا يعرف الحقد طريقا إلى قلبه الكبير المحب للآخرين، والقريب منهم والقادر بصدق وبأمانة على تجاوز إساءاتهم عمدا كانت أم عن غير قصد.

لقد التقيت به في عدن ودمشق والقاهرة وجمعتنا الكثير من اللقاءات والأحاديث التي كنا نتذكر فيها الماضي منذ بداية انطلاق الثورة من جبال ردفان الشماء، وهذه اللقاءات هي امتداد لعلاقات تاريخية تعود إلى عام 1965 حيث كان لقاؤنا الأول في مدينة تعز حينما جمعتنا الطريق والطريقة، فأما الطريق فإلى قاهرة المعز قاهرة عبدالناصر في رحلتنا الأولى إلى ذلك البلد الذي شكّل قبلة للثورتين في ذلك العهد المشرق، وأما الطريقة فتتمثل في اقتسام الهم الوطني والقومي الذي تشاركنا فيه منذ وقت مبكر، وكانت وجهتنا لغرض المشاركة في مؤتمر في اجتماعات القوى الوطنية الجنوبية التي ستعقد برعاية جامعة الدول العربية في مارس 1965م.. وأذكر أن رفاقنا في هذه الرحلة التي انطلقت من صنعاء إلى القاهرة على متن طائرة روسية من نوع (انتيونف 12) كانوا كوكبة من رفاق النضال المتميزين برئاسة المناضل قحطان الشعبي، وهم: (هاشم عمر إسماعيل، عبدالله محمد المجعلي، سالم ربيع علي، محمد أحمد البيشي، عبدالكريم الذيباني، عبدالله مطلق، الشيخ فضل هرهرة، بخيت مليط، قاسم الزومحي، الشيخ علي العريفي، الشيخ محمد صالح الأزرقي، الضابط علي الهلالي، عبدالرحمن راشد اليافعي).

وماتزال تفاصيل تلك الرحلة عالقة في ذاكرتي حتى اليوم، لقد طلب منا يومها أن نكون على استعداد للسفر عند الساعة العاشرة صباحا على تلك الطائرة ذات المحركات الأربعة، وكان علينا أن نضع كمامات الأوكسجين منذ إقلاعها وحتى هبوطها في مطار الماظة بأرض الكنانة، فلا كلام ولا سلام ولا ماء ولا حمام.. هكذا اقتضت الرحلة على متن تلك الطائرة العسكرية في صفين متقابلين يفصل بينهما أسطوانة الأوكسجين، وكانت التوجهات التي صدرت تحضنا على الأكل والشرب وقضاء الحاجة قبل صعود الطائرة، ولم يكن ذلك مهما بالنسبة لوفد يتوق للقاء المحروسة لأول مرة. ومن المواقف الطريفة التي ترتبط بفقيدنا الراحل بالليل لبوزة في هذه الرحلة أنه كان يضحك وأحيانا يفتح الكمامة ويصيح قائلا: «عيب عليكم نحن لسنا كباش»، ويرد عليه المناضل سالم ربيع علي: «بل نحن مثل نعاج أمي»، ويضحك الآخرون، وهكذا مر الوقت مع فقيدنا ورفاقنا الآخرين، ونحن نرتدي ملابس الكاكي وبعضهم الزي الشعبي استعدادا للمشاركة في هذا الحدث النوعي، وكانت الصحف تتحدث يومها عن وفد الجبهة القومية، وعن الذئاب الحمر الذين يلجون قاعة مؤتمر جامعة الدول العربية الذي حسمت فيه الأمور لصالح دعم الجبهة القومية والاعتراف بها آنذاك.

قامت جبهة التحرير في يناير 1966م بقيادة المناضل عبدالقوي مكاوي وعبدالله الأصنج وعلي السلامي ومحمد سالم باسندوه وعبدالله محمد المجعلي وطه مقبل وآخرين، واختلف رفاق السلاح بين مؤيد ومعارض لها، وأنحاز الفقيد بالليل لبوزة وعدد من الرفاق في جبهات القتال لجبهة التحرير ولمصر عبدالناصر وصوت العرب، بينما اعتمدت الجبهة القومية بعد أن رفعت مصر كل أشكال الدعم عنها على تنظيمها في الداخل والخارج وعلى جماهير الشعب التي مدتها بكل مقومات الصمود والاستمرار حتى تحقيق النصر في 30 نوفمبر 1967م، وفي ذلك العام حسمت الأمور لصالح الجبهة القومية عسكريا وسياسيا والاعتراف بقيام الدولة في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية برئاسة قحطان الشعبي، ولكن ذلك الصراع والانتصار بين رفاق السلاح ترك جرحا في جسم الوحدة الوطنية، وعلينا أن نقرأ التاريخ جيدا وأن نعترف به ومن الصعب أن يتمكن أحد من شطبه بجرة قلم أو بقرار سياسي أو بأمر عسكري أو بقوة السلاح لاسيما التاريخ الحديث الذي باتت شواهده سهلة وموثقة ومعروفة.

إن الوقوف أمام خطب جليل ومصاب جلل بفقدان الراحل الكبير بالليل لبوزة، وهو من دفعني إلى استحضار هذه المحطات التاريخية على عجالة، ذلك لأننا أمام فقيد تاريخي من أسرة تاريخية لم تحظ بالاهتمام ولم تلق التقدير اللازم لأدوارها البطولية المشرفة سواء قبل الوحدة أو بعدها.

رحم الله فقيدنا الكبير.. وأسكنه فسيح جناته وتقبله مع الصالحين ومع أبيه الشهيد الكبير وألهم أهله محبيه وذويه الصبر والسلوان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى