الشيخ عبدالقوي محمد شاهر.. علم لا تنقصه النار

> د. هشام محسن السقاف

>
د. هشام السقاف
د. هشام السقاف
تستقيم البطولة على قائمتين في أرض الصبيحة لتدب على الأرض، وحال أن نعرف أن الأمهات لا ينجبن إلا كل اشس لا يتسرب الخوف إلى قلبه من خلاف، سندرك حجم التضحيات التي تقدمها هذه الأرض الممتدة بين الوهاد والجبال و الصحراء والبحر من أطراف كرش وحتى مضيق باب المندب، ثم ستجد الصبيحي قد حط رحاله دون أن يتخلى عن عنفوانه وبأسه في غير مكان من تبن والحوطة و سواهما وكأنه يردد مع *الشاعر القديم:
(وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى)
أما الأمير أحمد فضل القمندان في (هديته) فلم يغمط الصبيحي حقه وهو يتحدث عن تركيبة السكان التاريخية في المحروسة (لحج) فالأصابح يشكلون نسيجا أساسيا في ديموغرافية هده الأرض.
وليس ببعيد عنا محاولات سلطنة العبادل التمدد بين ظهرانين هذه القبائل التي ما ألفت أن تخضع لأحد. فتأرجحت المحاولات بين المواجهة و الترويض والانقياد والتمرد ثم التمثيل في هيئات السلطنة التشريعية بحجم لم يرض الأصابح قط، وهم في ذلك محقون. لكن ذلك لم يثن هؤلاء المفطورون على البساطة و الشجاعة الخارقة من أن يكونوا عصب النسيج الاجتماعي مع إخوانهم في لحج من العشائر والقبائل الأخرى، ليكونوا معا صناعا لتجليات تاريخية لاحقة قبل و بعد أفول شمس السلطنة العبدلية في العام 1967م.
في التشكل الجنيني للذاكرة المعرفية كنا نتلهف صغارا لسماع حكاوي كبيرات السن عن (العبد بن سالم الصبيحي) الذي ارق السلطنة بعد الحرب العالمية الأولى، أما أثناء هذه الحرب فقد مال ككل الأصابح والقبائل الأخرى إلى جانب الأتراك ما عدا قبائل بعينها ظلت على ولائها للعبادل الذين وجدوا في عدن المستعمرة ملجأ لهم. وفي حومة من حومات الوغى بين الإنجليز، والاتراك جنوب الوهط في الأرض الزراعية المسماة (المفاييش) أدرك العبد بن سالم الأتراك وهم على شفا هزيمة، بكوكبة من الأصابح ممن انخرطوا في المعركة بالقتال وقوفا، وأمالوا شوكة النصر لصالح الأتراك وتركوا الأرض مليئة بجثث جلها من (السيخ) المنضويين في جيش للامبراطورية البريطانية.
أما العبد بن سالم نفسه فقد أكثر من غاراته بعد الحرب على الحوطة وأطرافها، لكنه ما كان ليغير أو يعترض البسطاء أو العامة من المواطنين كما قيل، وهو ما يقرب إلينا صورة أخرى لـ (روبن هود) في الأدب والتاريخ الإنجليزي. وأخيرا لم تجد السلطنة من حيلة لاقتناصه سوى بالمكافأة، فقتله واحد ممن يطمئن لهم العبد بن سالم وصلبت جثته، وعند عودة بعيره وحيدا دون صاحبه إلى أمه العجوز قالت *على صوت (الركلة):
يالعبد بن سالم ريت روحك دام
يموت من مات ومن سقط لا قام
كانت التمردات المبكرة ضد الإنحليز تأتي من منطقة الصبيحة، مع وصول بواكير الصناعات الحربية (البندقية الفرنساوية) عبر سواحل الصبيحة المفتوحة على القرن الأفريقي، أولى الهبات القلبية كانت في منطقة (الرجاع) ثم المناصرة. يزداد القلق الإنجليزي، ويزداد الضغط على السلطنة العبدلية، ولم يكن المرء ليتصور أن الديقراطية الغربية قد تلجأ للقوة العسكرية المفرطة بما في ذلك الطيران. ويسجل التاريخ أن شاهر ومن بعده ابنه محمد ثم الحفيد عبدالقوي في مقدمة المنتفضين مع قبائلهم العصية المراس ضد الإنجليز. والشيخ شاهر هو الذي يشير إليه القمندان في رائعته *المغناة بقوله:
يا اذن شاهر با تصنجها مدافعنا صنج.
بزغ نجم الشيخ عبدالقوي محمد شاهر مع اندلاع العمل الثوري التحرري في الستينيات من القرن الماضي، باعتباره أحد أبطال العمل الفدائي المسلح. كان ـ رحمه الله ـ على فطرته القبلية المتسمة بالصراحة والصدق، مشفوعا كل ذلك بكاريزما القائد و شجاعة الصبيحي المعتادة. ظلت تلازمه هذه الصفات حتى وفاته، وإن كنت أنسى فلن أنسى إعجاب الأستاذ هشام باشراحيل - رحمه الله - بذلك الراحل عندما سمعه يتحدث بشجاعة أدبية متناهية في أحد الاجتماعات غير مبال أن الحيطان لها آذان.
في حرب العام 1972 م وجد نفسه في الطرف الآخر مضطرا بعد أن أجبره ظلم الإخوة في الجنوب - وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام اليماني - كما نعلم، أن يقود كتيبة من النازحين الجنوبيين في تعز من عناصر جبهة التحرير و التنظيم الشعبي فاحتل (كرش) لساعات ثم انسحب منها لإحساسه كقائد بعدم جدوى الاقتتال وأن داعميه من القوات الشمالية من الخطوط الخلفية لا يركن المرء إلى مصداقيتهم.
وبتجربته الغنية على مدى سني النزوح لم يطمئن قلب الشيخ عبدللقوي لهرولة ارتضاها النظام في عدن نحو وحدة اندماجية مع الشمال، وكأنه يدعو بصدق إلى وحدة جنوبية جنوبية أولا، لتغدو الأمور في نصابها الصحيح قبل التفكير في خطوة مصيرية كهذه. فاغتنم فرصة انفتاح الجنوب على معارضيه في الشمال من الجنوبيين يقود ذلك الاتجاه الأخ المناضل سعيد صالح - رحمه الله - بعد دعوته الشهيرة لقادة المعارضة في الشمال زيارة وطنهم والعودة إليه، فتفتحت نافذة لأن يطلب الشيخ عبدالقوي الالتقاء سرا بمن يمثل نظام عدن في أي مكان خارج الوطن. لكي يحذر الشيخ عبدالقوي نظام عدن من وحدة مع الشمال لا يخفي وراءها رأس النظام هناك سوى اللعب على التناقضات الجنوبية ثم الانقضاض والسيطرة والانتقام منه.
والتقى الطرفان في تونس وتركيا ممثلا عن القوى الجنوبية المعارضة الشيخ عبدالقوي محمد شاهر والشيخ عبدالله درويش رحمهما الله، بينما كان التمثيل الجنوبي الحاكم في عدن مخيبا لآمال الرجلين، وفي اللقائين لم يكن الجنوب الحاكم يريد أن يستثمر نصيحة الرجلين والاستفادة منها، بل كان محكوما بضغط القوى المهرولة التي لم يكن بينها الشهيد سعيد صالح بطبيعة الحال.
كنا في ضيافة الأخ العزيز المناضل أحمد عبدالله المجيدي بحضور بعض من مشائخ الصبيحة بينهم القائد اللواء محمود أحمد سالم - فك الله أسره - عندما تحدث الشيخ عبدالقوي بعنفوانه المعتاد في الحديث وبصدق العبارة ووضوح الفكرة، عن تلك الواقعة وما جرى فيها، وكأنه يريد أن يوصل رسالة للتاريخ كشهادة لا تدحض من رجل صانع للأحداث.. وكرر أكثر من مرة أن هذا الحديث موجه إلي شخصيا دون سواي مما حملني معه عبء هذه الأمانة وأنه يحب أن تلقى طريقها للناس ليعرفوا بعضا من تاريخ هذه المرحلة التي كثيرا ما زيفتها أقلام المزيفين وكتاب السلطة.
كانت وفاة الشيخ العملاق عبدالقوي محمد شاهر في أوقات مضطربة عشية الحرب العدوانية الأخيرة على الجنوب العام 2015 م بينما الحاجة أشد ما تكون إلى رجل بحجمه.
رحم الله الشيخ عبدالقوي محمد شاهر طلقة الحق في نحور الظالمين وكلمة الصدق أمام الجائرين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى