عـاقـل حـارة

> مختار مقطري

>
مختار مقطري
مختار مقطري
زمان.. كنا نخرج نخرن تحت الكامبة بركن الحارة، نهرب من دوشة الحريم، ونبدأ من العصر نهيئ المكان تحت الكامبة التي لا ينطفئ مصباحها، الكلام في السياسة كان ممنوعًا، فكنا نتكلم عن الوحدة والتلال، وأمل كعدل، واللحم الاسترالي، نخرج مسجلة كبيرة، فيصل علوي كان يفرض نفسه علينا في بداية الجلسة، وبعد صلاة العشاء نبدأ مع أحمد قاسم والمرشدي ومحمد سعد عبد الله، وفي الساعة العاشرة، يكون القات قد قرح تماما، فنبدأ نتنهد مع أم كلثوم.
زمان الذي أقصده لا أدري متى بدأ، لكني أذكر تمامًا متى انتهى، عندما بطلنا نخزن بركن الحارة، وبطلنا نسمع فيصل علوي وأحمد قاسم وأم كلثوم، وعندما اختفى اللحم الاسترالي من السوق، وعندما أغلقت لجان الدفاع الشعبي أبوابها، وعندما دخلت كلمة (دحباشي) قاموس لهجتنا، أشياء قديمة تغيرت، وأشياء جديدة ظهرت، وصرنا مطالبين باختيار عاقل حارة.
عبده جيعان رشح نفسه، كان فقيرًا، وسبحان العاطي الوهاب، كنت أرسل له ما تبقى من غذائي، وبعض قمصاني القديمة، وأرحمه بقليل قات، لكنه بعد تدفق كراتين المانجو المعلب، صار تاجر جملة لكل ما هو معلب، ولكل ما هو فاسد، أمس أرسل لي خمسة آلاف ريال ليشتري صوتي، لو كان خلاها عشرة آلاف.
عبد الغني رشح نفسه أيضًا، والغني غني، كان أيام الحزب غنيًا ورأسماليًا وثورة مضادة، وكان لا يقطع فرضًا، كثير الصدقة، ومع ذلك كان من أصدقاء الحكومة، ومن هواياته جمع الطوابع والعملات الصعبة جدًا، وبعد دخول الدباباب عدن صار سمسارًا ثقيلًا، ودلالًا ناجحًا، ثم مقاولًا، لكنه ـ والحق يقال ـ كثير الاستخارة، دقيق في اختيار الفتاوى، ولم يكف عن جمع الطوابع والعملات النادرة جدًا، عبد الغني قال لي إنه مستعد أن يعاونني في ترميم بيتي.
لكن المصيبة الكبيرة أن يرشح حسن السكران نفسه، كان مدمنًا على الهرور، ويشحت حبة السيجارة وحق الشاي، ولم نكن ندري أين يأكل بعد أن طرده أبوه من البيت، وبعد الذكرى الثانية للانتصار العظيم، صار حسن السكران.. والله لا ندري ماذا صار، لكن جسمه بدأ ينظف من كثر الاغتسال، وروائح العطور تفوح من ثيابه الجديدة.. القمصان الملونة والسراويل المكوية، ولكل بدلة كرافته وحذاء يلمع، أعاده أبوه إلى البيت بعد أن أقلع عن شرب الهرور وبدأ يشرب الويسكي، وتزوج بنت الحاج سيف، جاري والجدار ملاصق للجدار، حسن السكران وعدني بوظيفة لإبني.
من النافذة رأيت خمسة من شلة التخزين تحت الكامبة، بدوا في حالة نقاش قوي وجاد، وعلى خلاف كبير، بعض أياديهم ترتفع وتلوح في تحد وتهديد.
أكملت تزرير القميص في الشارع، وهرولت مسرعًا إلى الكامبة، وكلما اقتربت أكثر وصلت إلي أصواتهم الغاضبة، سب وشتائم وعرار، وبمجرد وصولي إليهم بادرني سعيد ميوني بسؤال عنيف: وأنت ناوي ترشح من؟
أحرجنا.. وشعرت بالخوف.. فتظاهرت بالثباب لأقول: اللي با نتفق عليه.
صاح عوض باوزير: لن نتفق.
وكانت صفعة قوية من سعيد بيومي على وجه عوض باوزير أوقعته أرضًا، علي شنجه وقاسم قعطبي كانا خائفين، فاكتفيا بتهدئة الموقف بالكلام، في حين أمسك حامد عسكري بقميص سعيد ميوني وشده إليه، وصرخ في وجهه ثائرًا: كفاية بلطجة.. كل واحد بايرشح اللي يشوفه مناسبا.
يد عوض باوزير كانت قد سقطت داخل صحن (أبو الرانجيل)، فأمسك بالسكينة، وقفز من على الأرض قفزًا كأنه ظبي، لكن حامد عسكري دفع سعيد بيومي بعيداً واندفع معه، فدخلت السكينة بطن علي شنجه، صرخته المعبرة عن تألمه كانت ضعيفة، لكن الدم رسم دائرة حول رقبة السكينة وهو يسقط على الأرض، اندفعت إليه أنا وقاسم قعطبي، يدي لم تمتد للسكينة، لكنني قلت بثقة: سلامات.. سلامات.
بدا الزعل على وجه عوض باوزير، واقترب سعيد ميوني وحامد عسكري ليتفقدا علي شنجه.
وفجأة ظهرت سيارة حسن السكران، وتوقفت على يميننا، ونزل منها بكل هدوء، ووجهه حامد، واندس بيننا بعد أربع خطوات ثقيلة، كأنه وزير، ثم قال بصوت ثابت لكنه إيقاعي: مالكم يا جماعة.. خير.. أيش استوى بينكم؟
كان عدد كبير من أهل الحارة ومن المارة، قد التفّ حولنا، لكن قاسم قعطبي صاح بقوة: لازم نروح الشرطة.
فأجابه حسن السكران بصوت حنون: وليش نروح الشرطة.. اخوان وعيال حارة واحدة.. لازم نروح المستشفى.
ومنذ ذلك اليوم صار حسن السكران عاقل حارتنا، لكن.. وإلى اليوم.. لا تزال الكامبة هي الكامبة نفسها التي نصبتها بريطانيا في ركن حارتنا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى