حضرمي في بلاد الجرمان.. قراءة في رواية (هذيان المرافئ) لسالم العبد الحمومي

> أ.د. مسعود عمشوش

> لأسباب عدة كانت حضرموت من أكثر البقاع طردا لسكانها. وعادةً ما يغترب الحضرمي بحثاً عن لقمة العيش والعمل، وربما الأمن والأمان. وقد حظيت الهجرة الحضرمية - بسبب حجمها الكبير والأثر الذي تركته في المجتمعات التي استقر بها الحضارم وأحفادهم - بكثير من الاهتمام والدراسات والأبحاث العلمية. ولا تزال المؤتمرات تُنَظَّم لدراسة جوانبها المتنوعة والمتعددة.
إضافة إلى ذلك، سعى بعض الأدباء الحضارم إلى تناول حياة المهاجرين الحضارم في نصوصهم الأدبية، شعراً ونثراً. وسبق أن قمنا بدراسة ظاهرة الهجرة الحضرمية في رواية (فتاة قاروت - 1928) لأحمد السقاف، ورواية (سالمين - 2014) لعمار باطويل.
وفي هذه المقالة اخترنا أن نسلط الضوء على حياة طالب حضرمي سافر إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية في ثمانينيات القرن الماضي، ليس للعمل أو بحثاً عن لقمة العيش، بل طلباً للعلم، وذلك كما تصوره لنا رواية (هذيان المرافئ)، التي أصدرها سالم العبد الحمومي سنة 2005. وهي، حسب علمنا، الرواية الحضرمية الوحيدة المكرسة - في معظم صفحاتها - لتصوير لقاء العربي بالآخر الغربي، الذي نعثر عليه في نصوص روائية عربية أخرى كثيرة، مثل: (الأيام ج3) لـ طه حسين، و(عصفور من الشرق) لـ توفيق الحكيم، و(الحي اللاتيني) لـ سهيل إدريس، و(موسم الهجرة إلى الشمال) لـ الطيب الصالح.
تعتمد رواية (هذيان المرافئ) على السرد بضمير المتكلم، فالبطل الحضرمي "عمر" يسرد جزءا من إقامته في ألمانيا الديمقراطية (سابقا)، وتحديدا في مدينة "لايبزج" ثمّ في برلين الشرقية، أيام الدراسة.
ومن الطبيعي أن يتحدث "عمر" عن تجربته الدراسية في أرض الجرمان، لكنه لا يفعل ذلك إلا فيما ندر، لاسيما عندما يؤكد أنه كان في سنته الأولى يذهب بانتظام إلى مكتبة جامعة "كارل ماركس" في "لايبزج" ليرفع من مستواه في اللغة الألمانية التي استطاع أن يتحدثها بطلاقة.
وبالمقابل يحدثنا الراوي عمر بإسهاب عن مشاعر الخوف من الفشل، ووطأة الإحساس بالغربة التي كان عليه أن يواجهها في لايبزج، فهو يقول في بداية الرواية: "قضيت أربعة أعوام منذ كنت في لايبزج، تلك المدينة العتيقة، المتناسقة ببساطتها وعراقتها. وكان الوقت مبكرا كي أتفهم أبعاد التغيير الكبير الذي عليّ أن أخضع له أو أجابهه. وكنت متهيباً - إلى حد كبير - من هذه البلاد الباردة البعيدة، مستشعراً حجم الغربة، وثقلها المخيف في كل شيء يدور حولي.
ولم يكن سني الفتي وعظمي الغض إلا قيدا إضافيا يرهقني، ويضاعف شعوي المتحفز بالقلق والحذر، اللذين يتبديان بدرجة ملحوظة إزاء كل خطوة عليّ اتخاذها، في محاولة مضنية للتأقلم داخل مجتمعي وحياتي الجديدتين. وخلف كل هذا المزيج من التجاذبات الحادة المتوجسة يكمن شعور آخر يغذيه الخوف من احتمالات الانكسار والفشل. وهذا ما جعلني أواجه الأمر وكأنه تحدٍّ مفروض، وبأنه يتعيّن عليّ التقيّد الصارم بنظام قاسٍ وعنيد. فمثلاً كنت أجلس لساعات طويلة في مكتبة الجامعة، في محاولات دؤوبة لإخضاع قناة اللغة الألمانية، صعبة المراس، شديدة التركيب والتعقيد". ص37-38
ومن أبرز مشاكل الغربة التي يركز عليها عمر: العزلة التي يمكن أن يقع فيها الطالب الحضرمي هناك، الذي يستصعب الاختلاط بالجرمان الأريين، ولا يستطيع البقاء وحيداً مع نفسه، ويعترف: "في هذه المدينة الباردة الكامدة يخاف المرء حد الرعب من أن يجد نفسه وحيدا. فلا أقلّ أن تتلبسك الوحشة الصارمة، الشبيهة ببرودة الموت". ص9
ومن البديهي أن تنعكس مشاعر القلق والخوف والغربة تلك على الصحة الجسدية للطالب، الذي سرعان ما يكتشف أنه بات يعاني من أمراض عدة وهو لا يزال في ريعان شبابه. فـ "عمر" وكثير من زملائه يشتكون من قرحة المعدة، وعندما يذهب إلى الطبيب ينصحه: "عليك أن تخضع لنظام غذائي، وأن تتجنب ما أمكنك مسببات القلق والانفعالات الحادة". ص44
وعندما غادر عيادة الطبيب، يقول: "خرجت يعاودني الإحساس الزاخر بالسخرية العابثة، محملا بالعقاقير، التي أمقتها كثيرا وبيقين بائس بأنني أحمل مرضا مزعجا أكسبتنيه هذه الأصقاع القاحلة، وقد يرافقني هو الآخر لسنوات لا يعلمها إلا الله". ص44
ومن الطبيعي أن يسعى الطالب الحضرمي عمر إلى تجاوز عزلته ومصادر قلقه من خلال قضاء أكبر قدر ممكن من الوقت وسط أي تجمّع كان، وبشكل خاص مع زملائه الطلبة القادمين من حضرموت وقرى ومدن الجمهورية التي جاء منها. فهو يقول: "ولم يعد في وسعي بعد أن تقرحت معدتي وصارت مخزنا للآلام المبرحة والمشاعر الغامقة سوى البحث عن أي تجمع صاخب ينأى بي عن نفسي التي أتعبتني تماما". ص9
وفي صفحات محدودة جدا، يسرد لنا عمر لقاءاته بعدد من أولئك الزملاء، جماعة (قوارض الليل)، منهم سعيد الغزي الذي أصبح يلقب بـ(برميل البيرة)، ويستقبلهم قائلا: "أووه ..أنستو يا حيا بكم.. أي وقع ساحر جمله ذلك النداء البسيط إلى نفوسنا وسط ذلك المحيط الغريب البارد. اندفعنا نعانق هذا الصوت الحضرمي المرح". ص165
ومن الأصدقاء الذين يساعدون عمر على تجاوز بعض المصاعب الرفيق يسلم حسن، سكرتير الحزب الاشتراكي (اليمني) في عموم ألمانيا، ابن زعيم القبيلة السابق في قريته". ص175.. ويحاول "عمر" كذلك أن يهرب من عزلته وقلقه من خلال التردد على بعض الملاهي في كل من "لايبزج" و"برلين". ففي برلين نراه يرتاد ملهى (العرين) "الذي يأتي إليه أعتى الفنانين في برلين عندما تضيق بهم أرواحهم الكبيرة المجهدة". ص9
لكن من الواضح أن الحضرمي "عمر" مثل معظم الطلبة الذين تقدمهم لنا النصوص الروائية العربية المشابهة، لا ينجح في تجاوز مشاعر العزلة والغربة في تلك البقاع الباردة إلا في أحضان الأنثى الغربية الشقراء، وذلك منذ الأشهر الأولى لوصوله إلى ألمانيا.. فهو - في الحقيقة - لم ينتظم في الذهاب إلى مكتبة "كارل ماركس" في لايبزج لمراجعة اللغة الألمانية فقط، بل كذلك لمقابلة الأنثى الآرية "كوني" التي تصبح صديقته، وتحمل منه، ويقدمها إلى شلته بوصفها خطيبته.
ويسرد لنا أول لقاءاته بها على النحو الآتي: "وحينما بدأت أولى خيوط السأم والضجر يتسللان إلى نفسي، تعضدهما مشاعر الإرهاق والعجز اليائس، كانت قد مرت على تجربتي المجهدة عدة شهور، غير أنني لم أستسلم ألبتة، واضعا غربتي بكاملها نصب عيني، كخصم عنيد لابد من قهره. ولم يكن ذلك الشعور ليخذلني حتى ظهور الفتاة الشقراء الممشوقة، التي لاحظت ترددها على المكتبة بدأب وانتظام ملفتين.. كانت تلك الفتاة هي "كوني" دمية الأقدار العابثة، أو لا أدري. ربما هي - بمعنى آخر - إحدى أكبر محطات التحدي التي قذفت بها لايبزج في طريقي، دون أن تبدد الوقت". ص38-39
ومن ثم لا يتردد عمر في أن يربط بين علاقته بالأنثى الشقراء (كوني) وبين تغلبه على حالة الإحباط، واستعادته توازنه ونجاحه في الدراسة، فهو يعترف: "فترة الاختبارات لا تزال بعيدة، فاعتبرت ذلك من حسن الطالع، سيما أنني قد بدأت آخذ نفسي بمجاهدة كبيرة، الدرس والمذاكرة، بعد أن استعدت توازني، خلال الأسبوعين الماضيين، وإن كنت أغالب حنينا هادئا عميقا لرؤية (كوني) لا يلبث أن يتحول، عند سقوط المساءات الساجية، إلى توق عارم لأن آخذها في عناق صامت طويل". ص58
وليقنعنا بصحة ما ذهب إليه، يقدم لنا "عمر" قصة صديقه ومواطنه "حنش"، التي تبيّن كيف يمكن للأنثى الشقراء أن تساعد الطالب الحضرمي على تجاوز مآسي الغربة والفشل الدراسي في بلاد الآريين العظماء، ويسردها على النحو الآتي: "لمست في صوته الضخم نبرة لم يستطع الفكاك منها، منذ ذلك اليوم الذي أخبرته لجنة اختبار المعادلة بضرورة التنازل عن مساق البكالوريوس إلى مساق الدبلوم المتوسط. غير أنه سرعان ما استعاد صخبه ومرحه الطفوليين، وتوهج بفرحة غامرة، وهو ينقل لي مفاجأته الكبرى، فقد تعرف مؤخرا على فتاة ألمانية شقراء، آرية حقيقية، لا تقل عنه ضخامة. كان يصفها بإعجاب وهو يغالب ضحكة طفلة يضج بها صدره العريض. وأخبرني بأن خليلته العملاقة تشغل وظيفة متواضعة في المعهد الذي يدرس فيه، واعترف لي ببساطته الصافية أن هذا الحدث الفريد في حياته أغدق عليه سعادةً حقيقية. ثم أطلق ضحكة هادرة مهددا بقبضته الضخمة، إنه طلّق النحس إلى الأبد، بل إنه لم يعد يفكر في ماهية الفرق بين المعهد والجامعة، يكفيه مكافأة الأقدار الرحيمة له بأن ساقته إلى بلاد الآريين العظماء، كما يحب أن يسمي ألمانيا، ولو اقتصر الأمر في أن يلتقي هذه الإنسانة الكريمة. وقال صادقا عاجزا عن كبح مشاعره المنفلتة: كم هي رائعة يا عمر! لابد أن أقدمك إليها ذات يوم، لقد حدثتها عنك كثيرا". ص61-62
ومع ذلك لا يبدو أن علاقة عمر بالأنثى الآرية خالية من المصاعب والسلبيات الكثيرة، إذ سرعان ما يتبيّن لنا أن هذه العلاقة تخضع في الحقيقة لكثير من العقد والأحكام المسبقة التي تجعلها في النهاية تصل إلى طريق مسدود. فعمر، الحضرمي القادم من إحدى قرى المشقاص، ذو النظرات البدائية المضطربة، يضع نفسه في موقف ضعف ومستوى أدنى من "كوني" الأنثى الآرية الارستقراطية المترفعة.
ويحدثنا عن عقدة النقص تلك قائلاً: "لا شك أنها لمحت ذلك البريق البدائي يلتمع في عينيّ المضطربتين، إذ أن ابتسامة ماكرة هازئة تراقصت على شفتيها الرقيقتين الصارمتين، وظلت هذه الابتسامة المستفزة لا تبارحها كلما ردت على تحيتي الصامتة الملحة في الأيام التي تلت، ولعل ما زاد اهتمامي بها لا مبالاتها وبرودها الأرستقراطي المرتسمتان على قسماتها الآرية الناضجة بالترفع". ص40
وبالمقابل، يشعر عمر أن كثيرا من تصرفات الأنثى الغربية تجاهه تجسد اعتقادها الثابت بأن كل شرقي لا يختلف عن الملك شهريار الذي يحب أن يحيط نفسه بعدة نساء في الوقت نفسه. ففي أحد لقاءاتهما، عندما تعرف كوني نيّة عمر بالانسحاب تقرصه في صدره وتقول له: "أرجوك، أبق ولا تكن طفلا، ثم توجهت إلى صاحباتها وقد تلون وجهها بمرح طفولي كثيف، وهتفت: كاترينا، أين آلة تسجيلك العتيدة؟ هيا أسمعينا موسيقى راقصة لنحتفي بضيفنا العزيز، لا بل بمليكنا القادم من عالم الشرق الساحر. هيا". ص 8 ويُدفع عمر دفعا إلى إقامة علاقة مع إحدى الحاضرات، التي يكتشف فيما بعد أنها لا تمانع مع الارتباط بأي رجل.
ومن ناحية ثانية يشعر عمر أن تصرف كوني ينمُّ عن كثير من الازدراء، قد بدأت رواية (هذيان المرافئ) بسرد ذلك الموقف: "- ما كنت أتصور أنك بالسهولة التي أبديتها! لقد اثبت أنك حقا من الشرق. ورمقتني بنظرة متهكمة قبل أن تبتعد. حملقت فيها للحظات مصعوقا واطفأت الكلمات التي تجمعت في رأسي، وأحسست بحجم الازدراء الذي قذفت به في وجهي، وتراءى لي أن موقفي بات شديد الحرج وأنه يتوجب عليّ أن أجد مخرجا من هذا المأزق الثقيل". ص7
ونكتشف أن كريستين، الصديقة الثانية لعمرن تميل إلى النظر إليه ليس بوصفه فردا بعينه، بل بوصفه شرقيا مثل كل الشرقيين، فبدل أن تقول له: كم أنت عاطفي، تقول له "أعرف هذا. أوه كم أنتم عاطفيون!" ص12 وعمر، من ناحيته، لا يخفي شعوره بغرابة تصرفات الآرية كريستين، ويحدث نفسه عنها قائلا: "كم أنت رائعة يا كريستين! حتى في غرابتك المتفردة! ومهما يكن، فإنك تستحقين المجازفة، لإدراك كنه هذا التفرد والغرائبية التي تطفح منك". ويضيف: "لم أعد أبدي أي مبالاة حينما تمادت كريستين في تمردها الصاخب، بين ملاهي برلين، نافذة حقدها الموتور الثابت نحو الرجال دون استثناء". ص84
وحينما تمادى عمر في علاقته بكريستين تغضب صديقته الأولى كوني وتصارحه: "إن أكثر ما يسوئني في الأمر أنك ما زلت طفلا، أو كيس شهوة. وإنني بحاجة إلى اختلاق الأكاذيب من أجل المرأة الـ... وسكتت قليلا". ص85 وتدريجيا تفقد علاقة الطالب الحضرمي عمر بالآريات الشقر أثرها الإيجابي في تحصيله العلمي، إذ أن كثرة المواعيد والسهرات تجبره على تكرار الغياب عن المحاضرات، إلى درجة أن أصدقاءه أصبحوا ينادونه بـ(المنلفت). ص89 ويعترف هو نفسه قائلاً: "بتُّ أشعر بالخجل من أساتذتي ومن الأعذار التي فقدت طعمها، ولا شك أنهم يهزأون منها في أعماقهم فيما كنت أتوهم البراعة وأنا أدبجها لهم". ص94
وعلى الرغم من الحب الصادق التي تكنه الآرية الشقراء كوني للحضرمي عمر، وحملها منه، واعتباره إياها خطيبته، فعمر يحكم على علاقتهما بالفشل، تحت مبرر أن اصطحابها معه إلى حضرموت سيكون بمثابة اغتيالا لهما الاثنين. وتنتهي الرواية بنوع من تأنيب الضمير يصيغه عمر على النحو الآتي: "ترى كيف ستكون حياتي المقبلة بدون كوني؟ هكذا يتنفس رعبي الأخطبوطي بهدوء وحشي بارد. وبالمقابل يحدث في حالات نادرة، لكنها شديدة الحسم، لأن يردد صوت آخر من تلك الأعماق السحيقة، خافتا ولكن ثابتا جليا: ألا يكون الأمر أقل قسوة وفظاعة من اغتيال الاثنين معا؛ كوني وحبها الصاخب، في حال إذا قررت اصطحابها معك إلى وطنك البعيد الشائه؟ رحت أتطلع ناحيتها بنفس موزعة بين خيارين قاتلين". ص193
لهذا يرى الناقد السوري نبيل سليمان في قراءة له بعنوان (هذيان المرافئ رواية الوعي اليمني: سالم العبد يرسم اللقاء المستحيل مع الآخر)، أن "عمر يبدو نسخة باهتة من أبطال روايات أو قصص توفيق الحكيم وسهيل إدريس وفؤاد الشايب وعبد السلام العجيلي، أن رواية سالم العبد (هذيان المرافئ) يرويها ـ كالعادة الطاغية فيما سبق ـ طالب يستعيد زمنه الأول في الوطن على إيقاع زمنه الجديد في الفضاء الغريب، وذلك على إيقاع العلاقة مع المرأة".
أ.د. مسعود عمشوش

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى