«الأيام» في مستشفى الأمراض النفسية في عدن (1 ـ 2): مدير المستشفى: الميزانية متدنية ومستلزمات العمل في تناقص

> تحقيق/ علي راوح

> تنطوي أكياس بلاستيكية حول جسد هزيل لشخص في العقد الرابع من عمره، قرب مقلب قمامة كبير في مدينة الشيخ عثمان، ومن آثاره تبدو عليه علامات التعب، لكن هذا الشخص الذي لم يُعرف، هو واحد من المرضى النفسيين الذين ينتشرون في أرجاء متفرقة من شوارع وأسواق مدينة عدن الساحلية.
ويظهر البعض من هؤلاء في هيئات تخدش الحياء وتثير الرعب لدى الأطفال والنساء، لكن البعض الآخر، وهو الأكثر، يبدو في صور رثة، فيما تغطي الأوساخ بعضهم.
ويدور تساؤل في الأوساط الاجتماعية في المدينة حول ممن تقع عليه مسئولية احتواء هؤلاء المرضى الذين يشكلون خطورة على الناس وعلى أنفسهم أيضا.
قال أطباء وباحثون إنه لا يوجد تشابه بين حالة المريض النفسي وحالة المريض العقلي، فهما مريضان مختلفان، لكن الاختلاف بينهما كيفي، مما يعني أن الأعراض مختلفة تماماً، والمريض النفسي قد يكون أي إنسان تعرفه وتراه كل يوم ويمكن التعايش معه، ولا تبدو عليه آثار المرض، لكنه يعاني من الداخل، فيما المريض العقلي منفصل عن الواقع وغير مدرك بمرضه ويعاني من الضلالات والوساوس والاضطراب في سلوكه، ومع إهمال العلاج تتدهور شخصيته يوما عن آخر، وبالتالي يبدو مؤثراً على نفسه وعلى أسرته كذلك.

*ميزانية لا تفي بالغرض
في مستشفى الأمراض النفسية بالعاصمة عدن، التقينا الدكتور طلال العامري، وهو مدير عام المستشفى، بينما كان يعاين بعض المرضى في العيادة.
قال مدير المستشفى، الأشهر في المدينة: «إن المستشفى يضم مجموعة من الأطباء وعددهم سبعة، هذا بالإضافة إلى (17) باحثا وباحثة»، مضيفا: «إن هناك أطباء منتدبين من جامعة عدن يعملون في العيادة يوما واحدا في الأسبوع، ناهيك عن وجود اختصاصية مخ وأعصاب»، غير أنه قال: «إن الجميع يعمل بدون أي حوافز أو امتيازات، بسبب غياب الاهتمام من قبل الجهات المسئولة للمستشفى التخصصي الوحيد في البلد الذي يستقبل حالات تأتي من شتى مناطق البلاد».
وأضاف: «إن الطاقم التمريضي المتوفر (82) فردا، لكن العاملين منهم (72) فردا».
ويمضي مدير عام المستشفى قائلاً: «من حيث الكادر الفني والمعدات والأجهزة التشخيصية نحن نعاني من عدم توفر أجهزة الأشعة، في السابق كان لدينا جاهز واحد، ولكنه بات عاطلا عن العمل، نفتقر أيضاً لجهاز E.C.T، وكذلك أجهزة الفحص المخبري، والأشعة وغيرها من الأجهزة الطبية والمعدات الخاصة بالجانب النفسي، كما أن الكادر الفني يحتاج إلى عملية إعادة تأهيل، وكذلك الطواقم التمريضية والنفسانيين والإداريين وآخرين».
ويتابع: «إن أبرز الصعوبات التي يواجهها المستشفى تتمثل في الموازنة التشغيلية المخصصة للمستشفى سنوياً، وإنها لا تفي بالغرض»، مضيفا: «المستشفى بحاجة إلى رفع أو زيادة مستوى الميزانية، بعض البنود من قبل الجهات ذات العلاقة أُوقفت، ونأمل في استيعاب احتياجاتنا ورفع الميزانية التشغيلية السنوية والنصف سنوية والشهرية».
وقال العامري: «إن الأدوية والعلاجات المتوفرة يتم شراؤها من ضمن الميزانية، وهذه العلاجات والأدوية تصرف مجاناً كما بات معروفا للمترددين عبر العيادة الخارجية، وللمرقدين في الأقسام الداخلية، لكنها هي الأخرى أيضاً لا تفي بالغرض المطلوب، ذلك أن مخصصات الأدوية قليلة والاحتياجات والصرف تضاعف بكثير، هذا يضاف إلى أننا نغطي في إطار عملنا القادمين من أغلب المحافظات وليس من عدن فحسب».
وتابع العامري: «بالنسبة للتغذية، الأمر يشكل تحسنا أفضل من ذي قبل، بفضل الدعم المقدم من التحالف، لكن مع هذا لدينا عجز في سداد المديونية للتغذية السابقة من الأعوام الماضية، نتيجة الحرب والأزمة، هذه المديونية هي من قبل استلامي إدارة المستشفى، ومضت سنة ونحن نحاول نعالج الموضوع مع الجهات المختصة».
*ضغوط كبيرة
د. طلال العامري
د. طلال العامري

وأضاف العامري «ثمة ضغط كبير على العيادة الخارجية، نتيجة ارتياد المرضى لها للمعاينة والعلاج»، مضيفا: «إنها تعمل طيلة الأسبوع كاملاً، وهي بحاجة للترميم والتأهيل وتوفير مستلزمات العمل الفني والطبي والنفسي، والمكتبي مع ضرورة توفير التكييف والإضاءة وغيرها».
في مدينة عدن ينتشر عدد كبير من المرضى النفسيين، لاسيما في المدن المزدحمة وقرب الأسواق، ويبدو هؤلاء في مظاهر مختلفة، لكنها تشير جميعها إلى الحالة النفسية المضطربة وتأزم الحالة النفسية لأصحابها.

في هذا الصدد يقول العامري: «إن المسئولية تجاه هؤلاء تتطلب مشاركة واسعة من فئات المجتمع»، مضيفا: «إن هذه المهمة لا تندرج ضمن مهامهم، الدور على الشرطة والجهات الأمنية، نحن نستقبل الحالات المرضية التي تأتينا من الشرطة ونقوم بالواجب تجاهها في المعاينة، وتوفير العلاج، والمرقد والاهتمام بهم، وحين يبدأون بالتحسن نقوم بالاتصال بالشرطة لتسليمهم لأهاليهم».
«المستشفى ليس للحجز ولا للحبس، بل يؤدي واجبه الإنساني في خدمة المريض حتى يتحسن ويخرج»، كما قال العامري مختتما حديثه.
وقالت الباحثة النفسية د.هدى مهيوب عزعزي: «إن المرض النفسي (العصابي) يصنف حسب الأعراض الغالبة إلى عصاب القلق، عصاب الخوف، عصاب الهستيريا، عصاب الوسواس القهري، عصاب الاكتئاب، عصاب الوهن العصبي، عصاب تبدد الشخصية، عصاب المراق أو (عصاب الخوف من مرض بدني)، وأنواع أخرى».
د. هدى عزعزي
د. هدى عزعزي

وأضافت: «إنه في حالة الأخذ بكل المسببات في اضطرابات العصاب المختلفة يتبين أنها كثيرة»، لكنها قالت: «إنه يمكن تلخيصها في اضطرابات التأقلم، وهو ما يعني صعوبة الفرد في التكيف مع أحداث الحياة، وهذا يلعب دورا مؤثرا على علاقته الشخصية وإنجازه في العمل، هذا بالإضافة إلى قائمة كبيرة من العوامل الحضارية، والبيئية، والاجتماعية، التي لها أثرها البالغ في نوعية الأعراض، وفي الكيفية المتبعة لعلاجها، إلى جانب الأسباب الوراثية، والفسيولوجية».
*مؤشرات الاضطراب في تزايد
وقالت الباحثة النفسية: «تشير الأبحاث والتوقعات المستقبلية إلى احتمال زيادة الاضطرابات النفسية والعقلية في القرن الحادث والعشرين، خاصة القلق والاكتئاب، نظراً لسرعة الإيقاع، وتغلب المادة على الفكر، والذاتية المفرطة، وتقلص روح الجماعة، واهتزاز نزعة الإيمان، ومحاولة الإنسان المستمرة للهروب من هذا الخصم من المشتقات والكروب بطرق مختلفة، حتى يتسنى له عبور المرحلة الحياتية، لينعم بعدها بالطمأنينة والراحة الأبدية».
وتابعت: «أكثر الحالات شيوعاً التي تتردد علينا في المستشفى هي: الحالات العصابية، وخصوصا القلق والاكتئاب، فالدور الذي يلعبه الاختصاصي النفسي ليس بالهين، والفحص الاكلينيكي للحالة النفسية يسهم في اكتشاف أسباب عدم سعادة الفرد، وصعوبة توافقه الاجتماعي، وكيفية نشوء اضطرابات شخصية، والاختصاصي النفسي يشعر بما يعانيه المريض، ويحترم كافة انفعالاته مهما تكن غريبة».
*التأسيس
في مطلع ستينات القرن الفائت أنشئ في مدينة عدن أول قسم للعلاج النفسي والعقلي، في مستشفى عفارة حينها، الواقع في مديرية الشيخ عثمان، شمالي عدن، فيما بعد بدأ الإعداد لكادر متخصص في هذا المجال، وبالتالي كان أول طبيب يمني في المصحة هو الدكتور «سالم عبدالخالق» الذي كان عمل فترة طويلة في تلك المصحة التي أطلق عليها (مصحة السلام) التي نقل إليها المرضى النفسانيون والمتخلفون عقلياً من أقسام سجن عدن المركزي في كريتر.
لكن الوضع من المصحة إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية تغير لاحقا، وفي العام 1985م افتتح المبنى الجديد الذي تميز بحجمة الكبير بخلاف المبنى الأول، وكانت سعته السريرية حينها بلغت (208) أسرة، وشمل المستشفى أغلب متطلبات البنية التحتية، كما أنه جهز بشكل كامل من حيث الطاقم الفني والأطباء الاختصاصيين، فضلاً عن التأثيث والمعدات.
لكن الجهات المسئولة في وزارة الصحة لاحقا لم تضع خطة للصيانة الدورية المستمرة للمبنى والمعدات كذلك، عدا عن غياب التحفيز والتشجيع للكادر الطبي والفني والممرضين، هذا إلى جانب تناقص مخصصات الأدوية والتغذية، ما أدى إلى تردي الخدمات في المستشفى.
تحقيق/ علي راوح

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى