هل تعود الجمهورية اليمنية نحو حالة الفوضى الأولى؟

> د. عارف عبدالرزاق دحوان

> يعد الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا وأكثرهم شهرة، خصوصاً في المجال القانوني والفلسفة السياسية، حيث كان فقيهاً قانونياً ساهم بشكل كبير في بلورة كثير من الأطروحات التي تميز بها هذا القرن على المستوى السياسي، وهو من أسس نظرية «حالة الفوضى الأولى أو الطبيعة».
وتقوم نظرية حالة الطبيعة لدى توماس هوبز على أن كل إنسان لديه القدرة و الجهد لحماية حياته و أعضائه. وما دام لكل إنسان الحق في البقاء فلابد أن يُمنح أيضاً حق استخدام الوسائل، أعني أن يفعل أي شيء، بدونه لا يمكن أن يبقى، وهو بذلك يدافع عن الفردية الاستبدادية و يدحض و لا يأخذ بنظرية الحق الإلهي.

وتعكس هذه النظرية ما يحدث حالياً في الجمهورية اليمنية بين الفكر السياسي النهضوي لمذهب الحق الإلهي بالحكم والمزعوم عند الحوثيين و الصياغة الأولية لفكرة التعاقد (حكومة الشرعية)، حيث انطلق هوبز في مقولته حول العقد السياسي من ملاحظته حول الظروف الطبيعية للإنسان، والتي خاصيتها الأساسية الشر والتطاحن.
فنرى أن كل فرد في المجتمع اليمني في صراع مع الآخرين من أجل استعمال حقه، ومن هنا جاءت الحروب، وهنا تكمن المشكلة، فكل فرد يوجد في حالة حرب مع أفراد آخرين، حرب افتراضية. وهكذا يصبح كل فرد في حرب مع الكل وذلك لعدم وجود قوة قاهرة توقف الكل عند حدهم، وتلهمهم الشعور بالخوف «فمن أمن العقوبة أساء الأدب»، وهو ما يدعونا إلى البحث عن حل فرضته مشكلة أساسها التطاحن بين الأفراد.

وكما نرى فإن المجتمع اليمني يعيش حالياً في حرب الجميع على الجميع، حيث إن كل واحد مسكون بهاجس البقاء والخشية على وجوده من تربص الآخرين فيلجأ للقوة والعنف من أجل أن يردعهم، وحينها تكون الفوضى. ولذلك فإننا نشهد تزايداً ملحوظاً في معدلات القتل والسرقة وانتشار الجريمة. ومن الطبيعي في حالة كهذه أن تنعدم منظومة القيم التي تُعرّف الظلم والعدل والإنصاف والاعتداء، فلا صوت حينها يعلو على صوت غريزة البقاء، مما يعني حينها أن لكل واحد أن يرفع صوته عالياً مخبراً عن حقه في إرضاء غرائزه ورغباته مهما كانت تقوم على حساب الآخرين.

ومن الواضح أن الحياة التي يعيشها المواطن اليمني منذ ثورة 2011 هي حياة غير منتجة ولا ذات معنى، بل تحمل فناءها بداخلها، فتبادل الصراع بهذا الشكل بين أفراد المجتمع اليمني لا يحقق الأمن للمواطن ولا عيشه لنفسه ولا للأجيال التي ستعقبه.
وعليه يقترح هوبز أنه بدل أن يتبادل الناس الخوف بهذا الشكل عليهم أن يتبادلوا التنازلات ويبذلوها لحاكم وحيد، فرد أو مؤسسة يختارها الشعب اليمني بنفسه، صاحب سيادة على هذه الجغرافيا وعلى المجموع البشري الذي يسكنها. وصاحب السيادة هذا ينزع من كل واحد الاستجابة لغريزته الأولى في التربص بالآخر والريبة فيه، والنتيجة هي أن يحوز الناس على الحد الضروري الذي يأمنون به على حياتهم.

وعليه فإنهم لا يفعلون ذلك ليتعاونوا مع بعضهم، بل من أجل اتقاء شر بعضهم، وكأنه عقد (صريح أو ضمني) مكتوب أو محفوظ في الصدور، يتمسك به الجميع خوفاً مما يهدد الحياة ويقوض مصالح الشعب.
المواطنون اليمنيون، في نظر هوبز، يجب أن يقوموا بهذه التنازلات لصالح الحاكم من أجل مصالحهم الخاصة، هذا الحاكم بدوره يستلم مقاليد الحكم بسلطة مطلقة لا يقيدها شيء، وهو يحوز على ذلك ليكون وحده مسؤولاً عن مصالح الناس وأمنهم، فالتعدد في السلطات والحكام، كما نشهده حالياً من تدخل بعض الدول المجاورة في قرارات السلطة اليمنية، قد يعيدنا لحالة الفوضى الأولى (حالة الطبيعة).

وقد شبِّه هوبز هذا الحاكم (السلطة) بالوحش أو التنين الأسطوري «اللفياثان» الذي يملك قوة مطلقة وعدم خضوعه لإرادة خارجية غير الشعب، فجسم هذا الوحش الضخم يمثله الجمهور الغفير الذين تعاقدوا، ورأسه هو السلطة أو الحاكم، الذي يتنازلون له بمقابل أن يضمن حقوقهم كاملة وأمنهم واستقرار بلادهم.
ووفقاً لنظرية (اللفايثان) عند هوبز، فإن الحل الأول لإنهاء الصراع في المجتمع اليمني يكمن من خلال استخدام الميل العاطفي للفرد نحو السلام، والمستمد أساساً من الشعور الفطري بالخوف.

والحل الثاني: هو في استخدام العقل، العقل الذي يمكن أن يقدم للفرد بنوداً ملائمة لاتفاق سلمي بين أفراد الشعب اليمني والحكومة، يتجلى في القوانين الطبيعية التي يمكن التفاهم والاتفاق بصددها مع الأفراد الآخرين. وهذه القوانين ليست بأوامر، بل هي عبارة عن تعليمات وقواعد عامة للأخلاقيات التي يكشف عنها العقل من أجل منع البشر من التصرف بشكل مغاير لمصلحتهم وتدمير بلادهم.

وهكذا فإن العاطفة والعقل هما القوّتان الدافعتان للأفراد الطبيعيين في سبيل خلق الكائن المصطنع الذي يسمو عليهم بقوته ويحميهم ويدافع عنهم. وهذا الكائن ليس سوى الدولة أو الليفياثان Leviathan.
ويتجلى هذا من خلال تنازل كل فرد عن حكم نفسه بنفسه لصالح حكومة أو حاكم، يختاره المواطنون اليمنيون تحت سلطة شرعية يخضع لها جميع الأفراد الملتزمون بعقد الجماعة.

ويرى هوبز أن «تنازل الأفراد عن حقوقهم بموجب هذا العقد هو تنازل نهائي لا رجعة فيه، ولا جدوى من تنازل الأفراد عن نصف حرياتهم، لأنهم إن فعلوا ذلك عادوا للمطالبة باسترداد النصف الآخر إذا ما أصبحت مصالحهم عرضة للتهديد لأي سبب كان، وسيرتد المجتمع إلى الحالة السيئة التي كان عليها في البداية».
ويشترط توماس هوبز أن تنازل المواطنين عن كل حرياتهم للحاكم أو الملك، يلزمهم منحهُ الحق في تنفيذ مشيئته بالقوة؛ أي بحد السيف، وذلك لأن العهود والمواثيق بغير السيف ليست إلا مجرد كلمات.

كما يؤمن هوبز بأن أفضل أشكال الحكم بموجب هذا العقد هو النظام الملكي. وعليه فإنه لا يوجد ملك قوي يعاني رعاياه من الفقر والضعف وانعدام الأمن والأمان. ويرفض توماس هوبز أيضاً كل أشكال الحكم المختلط، من خلال تدخل بعض الدول المجاورة في قرارات الحاكم أو السلطة اليمنية، لأن السيادة في نظره لا تتجزأ، فهي إما أن تكون لفرد واحد أو لقلة من الأفراد، وإما أن تكون للجميع، ولا يمكن تجزئتها بين مزيج متنافر من النظم.

وعليه فإنه من غير الممكن تحقيق السلام الاجتماعي في المجتمع اليمني إلا بوجود حد أدنى من «الرقابة الثقافية»، وهذا يعني أن على الحاكم القضاء على أي مذهب يدعي حقه الإلهي في الحكم ويمكن أن تؤدي مغالطاته الفكرية إلى الثورة.
وأن الواجب الأول للحاكم هو الحفاظ على سلطاته وامتيازاته سليمة وكاملة غير منقوصة، فهذه السلطات والامتيازات هي الوسائل التي تمكنه من أداء وظيفته، بمقابل ذلك فإن على «الملك أو الحاكم التنين» أن يضمن لرعاياه الأمن والسلام، وأن يحافظ على حياتهم من كل خطر يهددها، وأن يترك لهم هامشاً من الحرية، ويوفر لهم مجموعة من القوانين الضرورية التي لا تتعارض مع أحكام هذا العقد.

هذه هي خلاصة أفكار هوبز، التي تجد أن الشعب اليمني يجب أن يتنازل عن جميع حقوقه لصالح حاكم يختاره ليحمي حقوقه ويحترم «عقده الاجتماعي» مع الشعب، ويكفل العدل والسلام والأمن للمواطن اليمني، ويجعل من «الثورات والانتفاضات» شراً مطلقاً، وفعل غير مبرر، لن يفضي إلا لمزيد من الفوضى والخراب وتدمير الدولة وضياع ثرواتها.
وأخيراً، فإنني على يقين تام بأن أي مجتمع لا تحكمه سلطة أو قانون يتحول إلى مجتمع يقاتل بعضه بعضاً ويحكمه قانون الغاب، وبهذا لا يمكن لأحد أن يأمن على نفسه بداخله حتى القوي، لأن اتحاد مجموعة من الضعفاء سيشكل خطراً على القوي، وقد يقتلونه ثم يتقاتل الضعفاء فيما بينهم لاقتسام الغنيمة، فالإنسان أناني بطبعه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى