> د. هشام محسن السقاف
بحثت عن فريد بركات في إصدار ضامر من منشورات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، عله يرشدني في ترتيب المعطيات الزمانية لحياة فريد الحافلة. هي كذلك قلقة وساكنة، ناصعة ومتوارية، نرجسية ومتواضعة، شفافة ونادرة، طامحة ومتريثة، سادرة إلى ما وراء الأحلام وواقعية.
باختصار، لم أجد فريد في المنشور، في مكتبة الداخل إليها «مفقود والخارج منها مولود». لكني وجدته يرتع حيث نحب، في اقتباسات كالنور تشع في قلوبنا المتعبة.
سوف تجد أن لـ (المكان) عبقرية تنشد إلى (مكان)، في رحلة التخلق والإتيان بما هو مبين للإنسان. من هناك، مثلا، خرج باشراحيل الجد كالبحر يسعى على بحر، في رحلة تحط رحالها في بحر حقات، وكانت «الأيام» متعاقبات البذر من الجد إلى الأب إلى الأحفاد. متعاقبات مثلها أيضاً كما نقول: «آل باذيب وآل باسنيد... وآل بركات».
ربما هي قصة لم تسردها «شهرزاد»، وتوقفت عن الكلام في ليلتها الثانية بعد الألف، فـ «سفر الخروج» الحضرمي ينبت في الأرض شعراً ونثراً وفكراً وأدباً وديناً وحياة تعتمر في مشاتل الدنيا البعيدة أين ما استقرت جوانح الحضرمي وجوامحه التي تصنع ذواته الخصبة بعيداً عن مسقط رأسه دون قطيعة أو تموضع في (جيتو) كما يفعل آخرون، بل بنسج من صنع يديه يتماهى إنسانياً في محيطه الجديد، وواحدة من إشراقاته المبكرة إسلام زاخر بمعطياته كتاجر والمتكئ على قاعدة سليمة «الدين المعاملة».
بركات الأب ناطق بلغة (الفرنجة) كما ينطقها أبناؤهم في مدينة الضباب. هو نفسه بركات يعتلي عرش صاحبة الجلالة بالسبق التأسيسي لفرع وكالة رويتر في عدن، في غبش كان سائداً في المنطقة برمتها.
إذن، هذا الرجل لم يعطِ بالاً لسبر أغواره كما يجب، ورفع القبعات تحية لريادته المبكرة والبحث في تجلياته الإبداعية سيراً في بلاط صاحبة الجلالة.
وهو ما نوجّه إليه طلاب الإعلام في آداب عدن للاستئذان في الدخول إلى عوالمه دخولاً حسناً، والاستماع ببصيرة إلى شيخ الإعلاميين في عدن الأستاذ الكبير محمد مخشف، وذاكرة عدن التي تدب على اثنتين الأستاذ المخضرم نجيب محمد يابلي.
أما ونحن صغار، ولا زلت أحسبني كذلك، وعلى سبعينيات القرن الماضي، فكنا نشاغب بالتسلق على نوافذ (مبرز) العم علوي الجاوي في عصرية ثاني أيام عيد الفطر، بلهفة الشوق التي يحدثها الراحل الكبير عمر الجاوي وضيوفه من الكتيبة المتقدمة في اتحاد الأدباء، ومن المثقفين بحلوله التقليدي سنوياً في ذاك اليوم الذي أفرده للوهط.
كان فريد مسروراً وأنا أذكره بذلك بعد أن جمعتنا دار «الأيام» بشكل منتظم في العشرين سنة الماضية. كان مسروراً ومتحسراً على ذلك الوقت البعيد ويقول: «قل للزمان ارجع يا زمان»، ثم حدثته عن لقائي الثاني به عبر قصيدة له أصبحت بالنسبة لي كتاب «الأمير» لمكيافيللي، بالنسبة لأصحاب الحكم. أقرؤها باستمرار واضعها بقربي عند المنام حتى تهرت أوراق صحيفة «الثوري»، حيث كانت تنزوي في الصفحة الأخيرة منها.
لقد كثفت القصيدة دلالات رمزية لأجواء الزنزانة المرعبة، المرعبة حقاً والمرعبة أكثر عندما يقبع في زاوية مظلمة فيها فريد بركات منتظراً صوب بوابتها الصدئة وهي تفصح عن جلاد قمئ.
تطوع الرفاق الجدد في «الثوري» بإهداء القصيدة إلى الأماجد الأربعة، وبذاك ظهرت القصيدة وكأنها التوبة في ليلة رأس السنة، عندما كتبت حتى صباح الزنزانة الجديد، قبل أن يطلق سراح بركات جديد، أيضاً مثخن بالتجربة المريرة حتى النخاع.
لا شك أن محرقة 13 يناير 1986م قد غيرت نواميس كثيرة في مفردات المدينة عدن. فلربما نفهم الصراع وأسبابه ومبرراته لكننا لن نفهم أن الفكر والثقافة كانا أول المستهدفين في محرقة الرفاق.
التهم الثقب الأسود للأحداث (زكي بركات، وعبدالرحمن بلجون، وجمال الخطيب، وإسماعيل شيباني، ومحمد سالم علي، ومحمد مهدي محلتي، وعبدالرحمن بشر، وفاروق رفعت، وأحمد سالم الحنكي، وسالم حجيري.. الخ). والأدهى أن على رأس قائمة المتهمين هو فاروق علي أحمد وليس أحداً آخر!، وكانت الثقافة، باتفاقنا أو اختلافنا معها، كانت هي المتهم الأول لدى جانبي الصراع، وهي التي لا تحمل شيئاً سوى القلم.
انطفأ فتيل الثقافة من سماء عدن «الثورية»، وقبل أن تتمتم آخر قصيدة في عشقها لـ (سعدي يوسف) وهو يغادرها بعد الأحداث، كانت هي نفسها المدينة تغادر إلى المجهول، وتلتحق بسور صنعاء القديم.
هذه الشعلة المتقدة تسيّدت المشهد الثقافي للجمهورية الأولى في الجنوب. ويبقى أن ثراء بركات الفكري والإبداعي حمل ينوء عن حمله حتى صاحبه، الذي زاحمه المرض في الفصل الأخير من حياته. تفصح عن ذلك رسالته الأخيرة للرئيس علي ناصر محمد، ولذلك ترك فريد كنوزه الثقافية مبعثرة فينا كي نقوم نحن بذلك، ولا أحد سوانا، بعد أن آثر سكينة الرحيل عنا.
ثم تبقى لنا تلك الصحبة المتميزة مع واحد يصنع من تواضعه الجم وهمساته الحانية وطقوسه البديعة، وفي التعامل مع الناس والأشياء برقي حضاري.. ليكون عملاقاً بحق في حياتنا، حياً وميتاً.
فريد بركات وداعاً..