عادل اسماعيل .. لماذا تركت الحصان وحيداً؟!

> مرثية كتبها / محمد العولقي

> * هناك في الأفق المخضب بلون العقيق حيث طواك الردى تهجر الألوان قوس قزحها يطوي المساء ملاءة نجومه .. تتبعثر المجرة .. ترتبك الأفلاك فترثي كوكبها الدري الذي فارق .. هناك يا (عادل اسماعيل) يبكي القمر ظله .. وينعي الليل غسقه .. تنساب غمغمات الوداع بين محيا هرب الدم من وجهه .. وعين أبيضت من وحل الفراق .. هناك يا (أبا صقر) حيث لا وطن يحتويك بين جباله وهضابه وتضاريسه .. تنكمش عطايا الشمس .. تغرب في عين حمئة .. ولا تترك خلفها سوى بقايا أثر لمسير فارس تركه وطنه وحيدا.

* الآن يا (عادل) لن تشكو لي مرارة الغربة وقد طوتك تحت ثراها المبلل بالضباب .. ستكف أيها (القديس) عن كتابة بقايا أحزانك .. ستنام تحت أرض ليست أرضك .. وستصرخ كل ملاحمك : يا وطن اللصوص والقراصنة لماذا لم يطو ترابك رفات قائدك؟ .. أخيراً وضعت النهاية المؤلمة لحكايتك مع خبز الغربة الموغلة في آلام وجعك .. نعلم يا (عادل) أن دوامة أحزانك كبرت في حناياك حتى أصبحت أشجاراً .. نعلم أن وطن البوم والغربان والجراد بخسك حقك .. سطا على عرقك .. وسرق بطولاتك .. وخنق حلمك ثم تركك مع الحصان وحيدا في مهب الريح .. لن تغرد الكناري البرتقالية في صدرك بعد اليوم .. فقد أغراها الرحيل .. لم يعد مجدياً أن تتجمد دموعك في حدقاتنا ، فقد صارت اليوم أنهاراً بحجم تاريخك الطويل.

* هل تعلم مدينة (ليفربول) أنها تضم رفات (ليف ياشين) الجزيرة والخليج ..؟ هل يعلم ذلك التابوت النائم في ملكوت الله أنه يحتضن قديسا زاهدا عاش على الستر ورحل على الستر ..؟
* يا من كنت تناجي ليلك الدامي في غربة اعتل لها قلبك المثخن بأوجاع وطنك الغارب هل يكفي أن تموت في غربتك واقفا كالطود ؟ ..

هل يكفي أن يحمل ظلك المرتعش نعشك بدلا عن وطنك الذي طالما كنت قوته ورباط خيله ..؟ ..هل يكفي أن نرثيك شعرا ولا يرثيك وطن كنت سده وأسده وفراته ؟ .. هل يكفي أن نعتب على وطن كنت تفرد له جناحيك كطائر الرخ الأسطوري ؟ .. هل يكفي أن نعلق على صدر وطنك المسلوب معلقة مذهبة تكون أنت بيتها وقافيتها وبحرها الشعري ..؟

* لا أدري .. غير أنني بخست هذا الوطن الذي لم يستعد مثواك من الغربة .. لا أدري غير أنني أعلم أن وطن (الوطاويط) أبصر طريقا في أرض النفاق فمشى خلف زامل من ينطق عن الهوى .. هل تسمع صدى نحيب جبلك الخالد ؟ .. هل يوقظك من سباتك عويل مدينة تحلف دائماً بحسن سمائك ..؟ .. هل تصغي لتلك النخلة التي مرت ذات يوم على صحراء قلبك محملة بأزيز نحلك ..؟

* كل شيء هنا يبكيك يا (عادل) .. ملعب (الحبيشي) الذي يخفي أسرار رحلتك مع حراسة المرمى والشباك التي تحكي سيرة ذاتية عمرها عقدين من الزمن .. والمعلا التي لا تنام إلا على قفازيك .. قهوتك التي تغلي على شفاه جيلك الذهبي.
* الشجن هنا يا (عادل) له مذاق العلقم .. تسبح الذكريات وهي تمرمر سحبك المتطايرة في سماوات مشوارك .. تستعرض شريطك .. ثم تدنو منك كل الأقمار .. تهمس لها السنابل حاملة من أثير الجزيرة لوعة مشتاق لبندره الجميل .. حيث عدن تغزل من حريرها قفازا ذهبيا لا يليق إلا بحامي ديارها (عادل إسماعيل).

* كنت دائما في غربتك كطائر الأشجان .. تحوم حولنا .. تدور في فلكنا .. تخبئ مرارتك في معطف ليلك العاري .. وتسأل : ألم يحن الوقت كي تهدأ الجراح .. وتسكن كل همزات النواح ..؟ .. كان وطن (الوحدة) الذي لفظك من أحشائه يتمدد على صدرك .. وكانت الغصة تهوي نحو حلقك كجلمود حطه السيل من عل.

* كنت يا (عادل) في الغربة على سفر عاجل .. تنام مستيقظا بين ليلين .. ليل سهدك .. وليل أنينك الخافت الأضواء .. غابت مساءآت فراشات قلبك .. أخرج النور من كفه قبساً أغرى فراشاتك فاصطادها .. أما أنت فلم تصطاد غير ظلمة أحزان عويلها لا ينتهي .. هنالك يا (عادل) قرب الصباح البعيد .. كنت ذات مسرة قاب قوسين أو أدنى من يومك النازف .. كان الموت يعتام حولك .. كان بينك وبين الفناء في غربتك شعرة أقل سمكاً من شعرة معاوية.

* منذ أن قذف بك وطن الجحود إلى سعير الغربة .. عرفت لوحدك طريق النجاة .. عرفت أن النجاة في امتهان ليلك السرمدي .. زهدت كثيرا .. توجعت .. وتمخضت آلامك مئذنة وصلاة .. أعطيت وطنك حياة .. نفخت في روحه وقد كانت كرته مجرد نطفة .. تغذى الوطن من ذراعيك .. وشرب من نهر عرقك الرقراق .. منحته حياتك .. وفي المحنة تناساك .. وقبرك في أرض موحشة ليست أرضك ..

هل غادر الشعر ديوانك ..؟ هل علق وصيته الأخيرة على قصيدة قاسية فوق حديقة جرحك ؟ .. كيف بقيت تجتر مرارة مرضك اللعين وحيداً وقد انتابتك موج مكارهك ثم فتها كالسقم في أعضائك ..؟

* منذ أن كنت غراً في غربتك والموت يكبر أمام بيتك .. كان رفيقك الوحيد في منفاك .. تبتسم له ويبتسم لك .. يشاطرك اللعب مع الألم .. كل شيء أعددته للموت : من ليل مسهد وسفر مجهد وزهد مقهد .. كنت ترى في مرآة الغربة كيف يكون مساؤك الموحش بالليالي الحالكات السواد ..؟ .. على حائط الموت كتبت سيرتك .. رويتها لأدب الاغتراب الطويل .. غيمات تتساقط جنب جسد مسجى بلا حراك .. وسحب داكنة تشيعك إلى مثواك الأخير .. وبين همهمات الذكرى ورعشات البلوى تسارع إيقاع الموت .. لا نجمة ليلك تعلم ما تخبئه فناجين الغروب .. ولا تلك العصافير التي انكفأت على جراحك واصلت نقر الحلم المضرج بفضاء يئن من نزيف غربتك النفسية.

* رحلت يا (عادل) وأقزام الوطن لا يعرفونك .. لا عزاء حكومي .. ولا نعي سياسي .. ولا رثاء دبلوماسي .. لا يهم فحتى موتك أغاظهم .. عراهم وكشف لصوصيتهم .. وأزاح النقاب عن وجوه فسفورية بلا ملامح .. أنت (عادل اسماعيل) من أسمع الصم والبكم .. وهم تلك (العلوج) التي تتجشأ على موائد أوجاعنا.

* يشهد لك (شمسان) .. فأنت أول من أسقى يبابه .. وأنت أول من شربت أشجار البرتقال من عرقه ودموعه .. أنت صاحب يدين رست عليهما سفن البطولة المطلقة .. لم تكن ميناء" للحراسة فقط .. بل كنت منطقة حرة تطرب لكل جديد ومفيد .. يشهد لك (الجنوب) فقد كان يمشي فوق رمشك وكان يمسح عن جبينك ملح الزمان .. يشهد لك المرمى فقد كنت جلده لسنين طويلة .. حارسه الأمين الذي صان الأمانة .. تشهد لك ذراعاك الطويلتان الباسقتان كنخيل سمائك الموغلة في الشموخ والكبرياء .. عشت يا (عادل) قانتاً في محراب الغربة منعزلاً في أغوار المدينة الغربية .. الكتابة عن قصتك مع الغربة كآبة ورتابة .. لم تسقط سهواً من ذاكرة أجيال صفقت لك .. وأمطرتك بقبلاتها .. لم تتنكر لك الملاعب وقد كنت ملحها حيناً وسكرها في أغلب الأحيان رحلت يا (عادل) مضرجاً بأوجاعك .. لكنك باق في قلبي .. يا وردة في دمي ووشماً على معصمي.

* هل ننسى أنك ذات مباراة ولدت من قلب الفاجعة من جديد .. وبرزت من تراب (الحبيشي) كطائر الفينيق؟ .. كل مرة كنت تزرع في مآقينا نجيمات الصباح .. وكلما علا موجك وتناسل زبدك عدت إلينا محملاً على ظهر غيمة بقطرات الندى .. لك يا (عادل) شيدنا معبداً للحزن والفراق .. لك وحدك ماتت في دواخلنا ناطحات السراب .. لأحزاننا طعم في مذاق الدم .. ولمرساة آلامنا لحن لم يعد يغري أسراب الطيور .. رحلت وتركت خلفك شباك ثكلى ومرمى يتيم .. فلا طعم بعد اليوم لشراب غيرك .. لم يعد للحراسة سوى بقايا صبر .. وفتات أطلال .. لقد رحلت بقعة الضوء عن مغارتنا .. وليس لنا بعدك سوى ليل طويل الموج أرخى سدول مسرحيته الأخيرة على صدر وطن صرنا فيه غرباء.

* سنلعق أحزاننا .. وسنلعن وطناً تخلى عن رفاتك .. سنروي لأجيالنا حكاية (عادل اسماعيل) مع وطن رماه عظماً .. سنقول لأولادنا : لا أحد في الغربة دفن (عادل) سواه .. نعم يا (عادل) أعطيت وطنك كل شيء وبخل عليك بقبر يحتويك تحت تراب (عدن) إلى الأبد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى