التتار

> سقوط بخارى
الحرب كَرٌّ وَفَرٌّ، وقد يكون الثبات في أرض المعركة إلى نهاية المطاف مفسدة كبيرة؛ لأنه يعني قتل مزيد من المسلمين، دون إحداث نكاية في العدو؛ لذلك انسحب الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ليعلمنا الواقعية في مثل هذا الموقف، وليتجهز بعد علاج الأخطاء لجولة جديدة يكون له فيها النصر بإذن الله.

لكنَّ «محمد بن خُوارِزم شاه» بعد أن انسحب بجيشه من معركته الدامية مع التتار التي استُشهد فيها من المسلمين عشرون ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك، ذهب ليُحَصِّن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة، واهتمَّ بتأمين نفسه وأسرته ومقرَّبيه، وتهاون كثيرًا في تأمين شعبه، وحافظ على كنوزه وكنوز آبائه، لكنه أهمل الحفاظ على مقدَّرات وأملاك شعبه، ولم يُعد العدة والعتاد لمواجهة هذه القوة الشرسة، لذلك جهَّز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع إلى اختراق الدولة الخُوارِزمية. فتعالوا نتتبَّع خطواته في هذه البلاد المسلمة.

وصل جنكيزخان في تقدُّمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وهي بلدة العالم الجليل، والمحدث العظيم الإمام البخاري (194 - 256هـ )، وحاصر جنكيز خان البلدة المسلمة في سنة (616هـ = 1220م)، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يُعطيهم الأمان. وكان «محمد بن خُوارِزم شاه» بعيدًا عن بخارى في ذلك الوقت، فاحتار أهل بخارى: ماذا يفعلون؟ ثم ظهر رأيان: أمَّا الرأي الأول فقال أصحابه: نُقاتل التتار ونُدافع عن مدينتنا. وأمَّا الرأي الثاني فقال أصحابه: نأخذ بالأمان ونفتح الأبواب للتتار لتجنُّب القتل. وما أدرك هؤلاء أن التتار "لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً" [التوبة: 10].

وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريقٌ من المجاهدين قرَّر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضمَّ إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها. وفريقٌ آخر من المستسلمين، وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرَّرُوا فتح أبواب المدينة، والاعتماد على أمان التتار!

وفي (ذي القعدة 616هـ = فبراير 1219م) فتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيزخان المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلًا في أول دخوله خديعةً لهم؛ وذلك حتى يتمكَّن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة. وفعلًا.. بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يُساعدوه على ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك! وحاصر القلعة عشرة أيام، ثم فتحها قسرًا، ولما دخلها قاتل مَنْ فيها حتى قتلهم جميعًا[1]! ولم يبقَ بمدينة بخارى مجاهدون. وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضَّتها، ثم اصطفى كل ذلك لنفسه، ثم أحلَّ المدينة المسلمة لجنده؛ ففعلوا بها ما لا يتخيَّله عقل!

وأترُك ابن كثير يُصَوِّر لكم هذا الموقف كما جاء في (البداية والنهاية) فيقول: «فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلاَّ الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن! (ارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها)، فمن المسلمين مَنْ قاتل دون حريمه حتى قُتل، ومنهم مَنْ أُسر فعُذِّب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها..»! انتهى كلام ابن كثير..ولا حول ولا قوَّة إلا بالله! هلكت المدينة المسلمة! هلك المجاهدون الصابرون فيها.. وكذلك هلك المستسلمون المتخاذلون!

عن أمِّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ». وكان الخبث قد كثر في هذه البلاد؛ فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليُدافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم.. ومن الخبث أن يُصَدِّق المسلمون عهود الكافرين لهم.. ومن الخبث أن يُسَلِّم المسلمون مَنْ رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوِّهم.. ومن الخبث أن يتفرَّق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم، ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم، وإلى سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. هذا كله من الخبث! وإذا كثر الخبث، لا بُدَّ أن تحدث الهلكة! وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم..

وهكذا هلكت بخارى في (ذي القعدة 616هـ = فبراير 1219م)! ولكن.. هل كانت هذه آخر المآسي؟! هل كانت آخر الكوارث؟! لقد كانت هذه أولى صفحات القصة؛ كانت بداية الطوفان وبداية الإعصار، وستكون صفحات القصَّة القادمة أشدَّ سوادًا وأكثر دماءً، سيدخل المسلمون في سنة (617هـ )، وهي -بلا شكٍّ- من أبشع السنوات وأسوئها وأظلمها التي مرَّت على المسلمين عبر تاريخهم الطويل.

الاجتياح التتري لسمرقند
كانت سنة 617هـ من أبشع السنوات التي مرَّت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى هذه اللحظة؛ لقد علا فيها نجم التتار، واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسْبَق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به، وما لا يُتخيَّل أصلاً. فبعد أن دمَّر التتار مدينة بخارى العظيمة، وأهلكوا أهلها، وحرَّقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا إلى المدينة المجاورة «سمرقند» (وهي -أيضًا- في دولة أوزبكستان الحالية)، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: «فساروا بهم على أقبح صورة، فكلُّ من أعيا وعجز عن المشي قُتل».

أسباب اصطحاب الأُسارى
الأسباب كثيرة: أولاً: كانوا يُعطون كل عشرة من الأسارى عَلمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظنَّ أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل مرهوب، فلا يتخيَّلون أنهم في قدرتهم أن يُحاربوهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدبُّ في قلوب مَنْ يواجهونهم.
ثانيًا: كانوا يُجبرون الأسارى على أن يُقاتلوا معهم ضدَّ أعدائهم؛ ومَنْ رفض القتال أو لم يُظهر فيه قوَّة قتلوه.

ثالثًا: كانوا يتترَّسُون بهم عند لقاء المسلمين؛ فيضعونهم في أوَّل الصفوف كالدروع لهم، ويختبئُون خلفهم، ويُطلقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم.
رابعًا: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن؛ لبثِّ الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار.

خامسًا: كانوا يُبادلون بهم الأسارى في حال أسر رجال من التتار في القتال، وهذا قليل لقلَّة هزائم جيش التتار.

الوضع في «سمرقند»
كانت «سمرقند» من حواضر الإسلام العظيمة، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة، وأسوار عالية؛ ولقيمتها الإستراتيجية والاقتصادية فقد ترك فيها «محمد بن خُوارِزم شاه» زعيم الدولة الخُوارِزمية خمسين ألف جُندي خُوارِزمي لحمايتها، هذا فوق أهلها، وكانوا أعدادًا ضخمة تُقَدَّر بمئات الآلاف؛ أمَّا «محمد بن خُوارِزم شاه» نفسه فقد استقرَّ في عاصمة بلاده مدينة «أورجندة».

وصل جنكيزخان إلى مدينة «سمرقند» وحاصرها من كل الاتجاهات؛ وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخُوارِزمي النظامي، ولكن -لشدَّة الأسف- لقد دبَّ الرعب في قلوبهم، وتعلَّقُوا بالحياة تعلُّقًا مخزيًا؛ فأَبَوْا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة! فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم؛ وذلك بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم، وقرَّر بعض الذين في قلوبهم حمية من عامَّة الناس أن يخرجوا لحرب التتار، وبالفعل خرج سبعون ألفًا من شجعان البلد، ومن أهل الجَلد، ومن أهل العلم؛ خرجوا جميعًا على أرجلهم دون خيول ولا دواب، ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظٌّ يُمَكِّنهم من القتال؛ ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد. وعندما رأى التتار أهل «سمرقند» خرجوا لهم قرَّرُوا القيام بخدعة خطيرة؛ وهي الانسحاب المتدرِّج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيدًا عن مدينتهم؛ وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيدًا عن «سمرقند» وقد نصبوا الكمائن خلفهم، ونجحت خطَّة التتار، وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدَّمُون خلفهم؛ حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة بصورة كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تمامًا؛ وبدأت عملية تصفية بشعة لأفضل رجال «سمرقند».

عدد القتلى
كم من المسلمين قُتل في هذا اللقاء غير المتكافئ؟! لقد قُتلوا جميعًا! لقد استشهدوا عن آخرهم! فَقَدَ المسلمون في «سمرقند» سبعين ألفًا من رجالهم دفعة واحدة!، (أتذكرون كيف كانت مأساة المسلمين يوم فقدوا سبعين رجلًا فقط في موقعة أُحُد؟!)، والحقُّ أن هذه لم تكن مفاجأة، بل كان أمرًا متوقَّعًا؛ لقد دفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تُحيط بدولتهم. للحديث بقية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى