​سور الرمل العظيم

>
في مطلع أبريل 2001؛ بداية عهد الرئيس جورج بوش؛ قبل أشهر من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقعت حادثة، أدت إلى صدام بين طائرة تجسس أميركية، ومقاتلة صينية، قتل الطيار الصيني، وهبطت الطائرة الأميركية اضطراريًا، مع طاقمها المكون من ستة أشخاص، في جزيرة هاينان، الواقعة في بحر جنوب الصين. أطلقت بكين سراح طاقم الطائرة بعد 10 أيام، لكنها لم تفرج عن الطائرة، إلا بعد ثلاثة أشهر، تمكنت خلالها من الحصول على معلومات استخباراتية ثمينة، كانت داخل أجهزتها، ولم يتمكن الطيارون من التخلص منها. جاءت أحداث سبتمبر 2001، لتنشغل الإدارة الأميركية عن القضية، وليسدل الستار عليها مؤقتًا، لكنها أعطت مؤشرات مبكرة عن تصاعد خطورة، وأهمية الصراع الذي يدور منذ عقود، حول ادعاء الصين، أن المنطقة بأكملها تقع ضمن سيادتها الإقليمية.

وفي 31 مارس 2015 ، صرح قائد الأسطول الأميركي في المحيط الهادي، بأن الصين تقوم بتجريف الجزر المرجانية، في بحر جنوب الصين، وتحول الشعب المرجانية فيه إلى جزر كبيرة، واتهمها بالانخراط في عملية استصلاح، لبناء جزر صناعية، بضخ رمال إلى الشعب المرجانية، وأُطلق على العملية اسم "سور الرمل العظيم"، وكان واضحًا، أن الهدف هو بناء منشآت دائمة فيها، وفي الواقع، فإن الأمر لم يبدأ فجأة؛ بل عملت عليه بكين منذ مطلع الخمسينيات، لكن وضعها الاقتصادي والتقني لم يتح لها توفير الإمكانات لمشاريعها هناك.

خلال جولة في جنوب آسيا قام بها وزير الدفاع الأميركي السابق جيمس ماتيس في 2018، تحدث عن النزاع حول بحر جنوب الصين، فرد عليه الرئيس الصيني، بأن بلاده لن تتنازل عن بوصة واحدة من الأراضي التي "تركها أسلافنا، ونحن لا نريد ما هو حق لغيرنا". كان الرد الأميركي أن معظم مطالب الصين في بحر الجنوب "غير قانونية"، ولجأ دونالد ترمب إلى ممارسة هوايته المفضلة في فرض عقوبات على عدد من الشركات، والأفراد من العسكريين، وكبار المسؤولين، في شركات مملوكة للحكومة الصينية، وأضاف شركة النفط الكبرى CNOOC إلى القائمة السوداء، وكان مبرر الإدارة الأميركية السابقة، أن هؤلاء الأشخاص، وهذه الكيانات قاموا بممارسات غير قانونية، ضد دول لها حقوق في السيادة على البحر، لكن الصين واصلت عملها الدؤوب، والسريع في عملية الزحف نحوه وفي أعماقه.

يمر نصف الأسطول التجاري العالمي عبر مضايق مالاكا (ماليزيا) وصاندا ولومبوك (إندونيسيا)، ثم يدخل في بحر جنوب الصين، ولكي تتحكم بكين في هذه الحركة الضخمة قامت بإنشاء(سور)، وتوسعت في إنشاء البنى التحتية المدنية والعسكرية، في مجموعة من الجزر الصناعية، في منطقة جزر باراسيل (تسميها الصين يونغ شينغ)، وتعرف أيضًا باسم الجزر الخشبية، التي حدثت فيها مناوشات عسكرية بين الصين وفيتنام، في يناير عام 1974، حين حاولت الأخيرة طرد البحرية الصينية من جوار المنطقة. ثم جعلت الصين مدينة سانشا مركزًا إداريًا لها. وفي 2018 صار في المنطقة مطار عسكري، وأرصفة بحرية، وتحصينات ورادارات، ومستشفيات، ومجمعات رياضية.

تزداد اليوم حدة التوتر في المنطقة؛ لأنها صارت مرتبطة بـ"مبادرة الحزام، وطريق الحرير"، والحملة الصينية المتسارعة لبناء الجزر، ورسم الخرائط في أعماق البحار، ولا تتوقف طموحات بكين عند هذا الحد؛ بل تجاوزتها إلى الاقتراب الحذر، والثابت من الممرات القطبية، التي تحاول فرض أمر واقع جديد فيها، على الرغم من عدم وجود شواطئ صينية قريبة منها، ما يحرمها من الأسس القانونية للحصول على حقوق فيها، لكنها تدرك حاجتها إلى الحصول على حصة من احتياطيات الغاز الضخمة المخزونة في القطب الشمالي، خصوصًا المناطق التي لا تدعي أي قوة أخرى سيادتها عليها. ولمواجهة هذه النزعة المزعجة، والمقلقة لواشنطن، وحلفائها في المنطقة، بدأت إدارة الرئيس بايدن في العمل على تجديد، وتعزيز تحالفها مع اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، والفيليبين، وإندونيسيا، وماليزيا، وفيتنام، وبروناي، لكبح جماح الأعمال التي وصفتها بالعدائية، مع الاستمرار في عدم الاعتراف بشرعية تصرفاتها، وأعمالها، والاحتجاج على مزاعم الصين، بالسيادة الكاملة على كل الجزر التي أنشأتها هناك.

ليس الصراع في بحر جنوب الصين و"الجدار"، الذي فرضته بكين، واقعًا هناك، هو الملمح الوحيد، لجموح الطموحات الصينية، وتطلعاتها خارج مساحتها الجغرافية، فهي تواصل بجدية، صياغة بطيئة ثابتة، ومستدامة لتحالفات جديدة في آسيا، كان مشهدها الأكبر هو الاتفاق "الصيني – الإيراني"، الذي لا يجب التهوين من آثاره المستقبلية على الصراعات الإقليمية، إذا ما أضيف إليه استمرار التوجه القديم، في تعزيز العلاقة مع باكستان، عبر المشاريع التي تمولها، وتنفذها هناك، وستكون المستفيد الأكبر منها الصين، اقتصاديًا واستراتيجيًا، بإيجاد موطئ قدم في مداخل الشواطئ البحرية المتاخمة لإيران وباكستان.

لا يبدو في الأفق أن الصين ستتراجع عن مواقفها، بالنسبة لفرض سيادتها في بحر جنوب الصين، ولا في مساعيها للاقتراب من القطب المتجمد الشمالي؛ لأن اقتصادها المحلي، قادر على تحمل الأعباء المالية، كما أنها ستحتاج إلى تأمين ذاتي للممرات المائية، وإلى طاقة بديلة مستمرة. وكل هذه العوامل ستشكل ملامح صراع قادم خارج حدود منطقة الشرق الأوسط، لكنه سيؤثر من دون شك فيها، كما سيكون له مردود إيجابي، على مشاريع الصين خارج حدودها، التي تشكل أرقًا للولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان.

حتى وقت قصير مضى، كانت الصين تتحاشى الظهور بصورة القوة العظمى، القادرة على الإفصاح عن تطلعات، لنفوذ خارج حدودها، ولم تكن تتحدث عن رغبتها في الاستثمار السياسي، الذي يتناسب مع ما حققته من نمو اقتصادي مذهل، وفائض مالي متضخم، لكن هذه العقيدة تغيرت خلال مؤتمر الحزب الشيوعي في عام 2017، الذي تمَّ خلاله طرح موجهات السياسة الجديدة، والإعلان بأن بكين ستظهر قوتها العسكرية، التي تعكس قدرتها الاقتصادية، ولن تتواضع إزاء فرض نفسها لاعبًا عالميًا، تتوافر له من الشروط الاقتصادية، والتقنية، والمالية، ما يفوق الآخرين. ولم تصل الصين إلى هذه المرحلة من النفوذ السياسي، والعسكري، والاقتصادي، إلا بتحكم قياداتها المتتالية، في الإبقاء على الهيكل السياسي للدولة، وضبط إيقاع تحديثه تدريجيًا، مع التشدد الصارم في الانضباط، والإنتاجية، وعدم الدخول في مغامرة إجراء تحولات جذرية مفاجئة تربك المجتمع والمؤسسات، وتعرضهم إلى اهتزازات عميقة، تخرج عن السيطرة فتعوق كل الطموحات.
الدرس الصيني يستوجب دراسة تفاصيله، وكيف تمكنت القيادة من خلق أجواء داخلية تتعامل معها، وإقناع المواطنين بأنها ليست طموحات فردية ينتفي الغرض منها، بغياب من يقودون التحولات التاريخية، التي تترك بصماتها سلبًا أو إيجابًا على حاضر، ومستقبل صانعيها.
"اندبندنت عربية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى