رحيل الشاعر الكبير سعدي يوسف

> أينما يذهب الشاعر يترك أثرًا، حتى حين يذهب إلى الموت، هذا سر خلود الشاعر والمبدع عمومًا.. وسعدي يوسف ليس أي شاعر، فهو شاعر كبير، تميزه فرادته، وإنسانيته، وعالمه الخاص الذي يصوغ مفرداته، وموقفه من الحياة وكل ما يحيط به، أنه عالم فريد ليس لسعدي يوسف بل لنفسه وللآخرين.
اعتقد أن هذا ما يمنح حياة الشاعر معنى وقيمة، ذلك الرباط الحميمي الذي لا يجعل شاعرًا كبيرًا مثل سعدي يوسف يشيح بوجهه عن الحياة، ويترك محبيه للحزن والألم..

ما إن مر وقت قصير على وجوده في عدن حتى حول إقامته القصيرة التي لم تستمر طويلًا إلى حضور ملهم للمبدعين..
أما كيف جاء سعدي إلى عدن. فعقب مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية بيروت جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان والمنظمة وحصار بيروت عام ١٩٨٢، وجهنا سفارتنا هناك باستضافة عدد من الكُتَّاب والشعراء العرب المنفيين في لبنان للانتقال والعيش في عدن.

كان الشاعر الكبير سعدي يوسف على رأس الذين لبوا دعوتنا، وتم استقباله بحفاوة رسمية وشعبية تليقان بمكانة هذا الأديب العربي المناضل الفذ. وقد تعرفت إليه أول ما تعرفت في عدن. لكني قرأت له قبل ذلك الكثير، ثم التقينا بعدها في دمشق وبيروت والعديد من البلدان، وواظبت على متابعة كل جديد يصدره. ما يميز سعدي يوسف هو التواضع الجم الذي يختفي خلفه شاعر عظيم، فيمنحك العبور إلى ذاته الإنسانية.. إنه درس كبير جدًا لكل من يريد أن يصعد سلم المجد دون أن يقتله الكبرياء.

كانت عدن خلال هذه الفترة، غاصة بالعراقيين والعرب المنفيين من بلدانهم، واحتضنتهم اليمن الديمقراطية. وباشر الكثير منهم أعمالهم المعتادة في الصحف، والمطابع وموظفون في دوائر مختلفة، بحسب تخصصاتهم، منهم الشاعر عبد الكريم قاصد الذي باشر عمله في مجلة ( الثقافة الجديدة)، التي كان يرأس تحريرها الشاعر المثقف فريد بركات رحمه الله. والشاعر السوداني الكبير جيلي عبد الرحمن الذي باشر عمله في جامعة عدن، وكذلك الشاعر السوداني الكبير مبارك حسن الخليفة، والشاعر المصري زكي عمر الذي عمل في صحيفة 14 أكتوبر والكثيرون الذين احتضنتهم عدن الجميلة.

أما الشاعر الكبير سعدي يوسف، القادم من حصار بيروت فقد اختارته دار الهمداني للطباعة والنشر مستشارًا لها ولمدير عام الدار الأستاذ الشهيد أحمد سالم الحنكي، ومشرفًا على إصدارات الدار من الكتب والمطبوعات الصادرة عنها. وكان سعدي رئيس التحرير الفعلي لمجلة (المسار) الصادرة عن الدار.

ويصف الصحفي نعمان قائد سيف في رثاء سعدي يوسف، وقد عمل معه، ومع الشهيد أحمد سالم الحنكي، هذا العمل بأنه كان بمثابة بعث الروح في آلات الطباعة المهملة، بتحفيز العمال والفنيين على إصلاحها وتشغيلها، وجذب المثقفين إلى صف الدار، فكان الإبداع المميز في سنوات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.. المأسوف عليها.

وبالمثل، فقد كان لعدن أثرها في شعر سعدي يوسف.. هذه المدينة التي عاش فيها شاعر فرنسا العظيم رامبو فترة من حياته.. فلهذه المدينة سحرها وتأثيرها على كل من يعيش فيها ولو لفترة قصيرة.. وانعكس هذا على النشاط الثقافي والأدبي الذي اضطلع به سعدي في المحافل والأمسيات الشعرية والأدبية في كل من عدن وحضرموت ولحج ويافع، التي رافقه في رحلته إلى لبعوس عام 1984 الشاعر جنيد محمد الجنيد، الذي قال إنه استفاد من سعدي كثيرًا في الشعر والأدب، ولم يكن يقصد نفسه فقط؛ بل أجيالًا من الشعراء العرب الذين تأثروا بسعدي يوسف وتجربته الشعرية الثرية.

أبدع سعدي في عدد كبير من القصائد والدواوين خلال وجوده في عدن، فضلًا عن إشرافه المباشر على إصدارات الكتب ودواوين الشعر، وكذا المجلات المتخصصة في الأدب، وأدب الطفل الصادرة عن دار الهمداني.

وهكذا كانت إقامته حافلة بالعطاء الزاخر لن تنساها الأجيال المثقفة التي ترعرعت ونمت في تلك الفترة الزاهرة من تاريخ اليمن الديمقراطية. فقد كان حضور الشاعر الكبير سعدي يوسف نبراسًا ملهمًا للإبداع والمبدعين. وسيظل شعره وكلماته التي خطها هي الكلمات التي ستقرأها أجيال وأجيال، وسيجدون بين سطورها ما يعيد لهم الأمل أو يمنحهم العزاء.

يقول سعدي يوسف في كتابه يوميات المنفي الأخير:
عدن بعيدة.. وعدن في القلب.. ولا مسافة بين القلب والمسافة..

تقول جنوبيون.. تقول يمانيون علمونا اللغة وأنطقونا الشعر، ومنحونا امرؤ القيس الجميل..

تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا أخوة يمانيون وإننا لأهلنا محبون..

تقول جنوبيون تقول يمانيون..

سددوا خطاهم من الثورة إلى نظرية الثورة..

ومن نظرية الثورة إلى الثورة..

وأنبتوا في رايات العرب أول نجمة حمراء…

رحم الله سعدي يوسف.. الشاعر والإنسان..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى