المستقبل كتب بالأمس

> قراءة جديدة في ملف الاستقلال

> في ركن قصي من شبه الجزيرة العربية استودع الله فيه عدن، وعلى مقربة من البحر الأحمر الذي يتوسط العالم على جانبيه ويرتبط بالمدخل البحري إلى أوروبا من جهة الشمال.

كانت عدن غير بعيدة عن مهبط الديانات السماوية في شبه الجزيرة العربية. وحول هذه المدينة نشطت كل مسارات التجارة العالمية بين الشرق والغرب، مستثمرة الخصائص الطبيعية التي منحها الله تعالى، مع اجتهاد لا ينكر للإنسان العدني في توظيف البيئة الداخلية للمدينة بما يخدم حركة التجارة العالمية ويعزز القيمة الجيواستراتجية لمدينة عدن، التي جعلت منها مقصدا للقوى الكبرى في عصور الحضارات القديمة، وموطئ صراع بينها.

عززت الكشوف الجغرافية هذه المكانة بما تمثل من حضور برتغالي وصدام مملوكي عثماني على أرضها، وجعلت هذه التحركات من عدن مكانا ثابتا للتنافس في الأطراف الأجنبية. وسيظل هذا الموقع جاذبا لكل التطلعات وأشكال التنافس الدولي والإقليمي الذي يجعل منها نقطة جذب نشيط، بل ومؤثر في تغيير استراتيجيات الصراع الدولي والإقليمي، على الرغم من تغير الشخوص الراعية لهذه التطلعات، وتغيير آليات عملها والظروف ذاتها، بل والوكلاء المحليين لهذه القوى، بما يتناسب والهدف من وراء هذا النشاط والظرف المستجد ذاته.

كان عام 1798 مفتتحا لصراع فرنسي بريطاني بعد وصول حملة نابليون إلى مصر. وأثار وجود قوات محمد علي في المنطقة المخاوف البريطانية. وفي 1800 كان لبريطانيا رؤيتها الاستراتيجية للسيطرة على جنوب البحر الأحمر، وتأسيس قاعدة تجارية في عدن. وما بين الأعوام 1839-1967 كانت بريطانيا قد احتلت عدن وأحاطتها بطوق من المناطق البرية غير المتصلة بعدن، التي لم تكن من أولوياتها في سنوات صراعها المبكر مع فرنسا، لكن لزوم تنفيذ رؤيتها استوجب ذلك، بل وربطت بريطانيا نفسها بهذه المناطق، وربطت عدن معها بحزام قانوني يمكّنها من تنفيذ آليات استراتيجيتها، وعلى قاعدة ذلك تغيرت الهوية الجغرافية للمنطقة كذلك.

وما بين 1917- 1967 تغير المشهد العربي والعالمي الذي أحاط بعدن. فقد انقسم العالم إلى معسكرين (اشتراكي ورأسمالي)، وبرز جمال عبد الناصر في عام 1952، وتزايد تأثير القومية العربية، وتأسس النظام الجمهوري في صنعاء، وتأثرت عدن إيجابا بكل هذه التحولات، وتعزز الحضور الوطني لها. وتحت هذا التأثير كانت المصالح الأجنبية ترقب كل المتغيرات في هذا الموقع وتدرسه.

وفي عام 1964 صرحت بريطانيا أنها ستدعم الحضور المستقبلي لها في المنطقة من خلال القواعد البحرية، إيذانا بحضور قادم لها في المياه الدافئة، واستعدادا للرحيل من قواعد برية بريطانية في مواقع كثيرة، منها عدن.

وفي 1966، عبر الكنيست الإسرائيلي عن مخاوفه من إغلاق المنفذ المؤدي للمحيط الهندي إذا ما سقطت عدن في يد أصدقاء عبد الناصر. واتجه الحضور الإسرائيلي اتجاها آخرا في منطقة البحر الأحمر ليعزز وجوده.

وفي أثناء مفاوضات الاستقلال 22-29نوفمبر 1967، أعلنت بريطانيا قبل بدء الجلسات الرسمية أنها قد أعادت جزر كوريا موريا لمسقط وعمان، وذلك بناء على استفتاء للأهالي. وعند بدء المفاوضات أخذت قضية الجزر من جدول أعمال المفاوضات ثلاثة أيام أمام إصرار الوفد الوطني باستعادتها باعتبارها ضمن حدود الإقليم، وعلّقت المفاوضات بين الطرفين بطلب الوفد البريطاني الراغب في التشاور مع حكومته حول الجزر. وفي اليوم المتبقي للمفاوضات شكّل الملف المالي عقبة جديدة، وتنصلت بريطانيا من التزامها المالي لدعم حكومة اتحاد الجنوب العربي، واعتبر أن المبلغ المخصص لحكومة الاتحاد قد صرف في الأصل خلال عام 1966 في شكل نفقات عسكرية وتجهيزات فنية للجيش. ويمكن استئناف المفاوضات بين الطرفين لاحقا في عدن حول الدعم المالي للحكومة الوطنية. لكن بريطانيا اعتبرت أي دعم للنظام الوطني في عدن مشروطا بالثقة بالنظام الذي سيؤسس في عدن.

وفي سنوات الحكم الوطني انشغل النظام الوطني بحروب مع الجيران من جهات ثلاث، وهي حروب ناتجة عن تدخلات في الخرائط البرية لليمن الجنوبي.

هذه السطور تستوجب القراءة الجادة والاستخلاص العميق، التي، من المؤكد، ستفضي إلى تحليلات نتفق عليها أو نختلف.

يقول علماء التاريخ: "إن الأحداث السياسية من حولنا تسمى سياسة اليوم، لكنها ستصبح تاريخا في الغد. ويقول آخرون: "إن التاريخ قد صنع بالأمس".

أتفق مع القولين، لكنني أضيف: "أن الجغرافية ثابتة، والأحداث تدور من حولها؛ لتصنع لنا تاريخا في الغد" وهذا هو حال عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى