طاب غراس آب، ونمى سنبله في أيام الزمن الظامي، كانت غيمة واحدة تسبح في فضاء عدن، حين تناول "الأب المؤسس" كأساً من شراب الحرية اللذيذ ونظر في السماء وهو يخطُ بريشته في لوحة الدهر اسم "الأيام".

بدأت تلك الليالي عطاش لرِواء الحرف الذي يطفئ لوعة الأحرار في زمن المحتل، حتى بزغ مع غداة يوم 8 أغسطس قبل أربع وستين عاماً صبح أشرق ونور أبلَج، فكان برد الوصال الذي أطفأ لاعج القلب.

وبدأت رحلة الزمن المضنى "الأيام" تمضي مع الأيام، ترصد أخبار الوقت وتسبر أغوار الزمن.

ارتحلت في مشوار صاحبة الجلالة، تذكّر الناس وهي تمضي معهم أنها أيامهم، ويمضون هم معها بذوب العمر، ويرون فيها أيام صِباهم في حواري عدن والليالي الماجدات.

اسمها من فضاء هذا الزمن الرحيب المسافر، ولكل إنسان أيام، وللذاكرة تحليق في فضاء" وتلك الأيام" أو هي تستعيد في لحظة تأمُّل "يومٌ من الأيام"، فتصير الروح جذلى، ولربما دَفَقَ إلى القلب شعور بلا حدود فيهتز كزهرة يلعب بها النسيم أو طفل يشهق من الفَرَح، حتى صار في ثقافة الإنسان الجنوبي ثلاثة من السعادة "الصُّبح والوطن والأيام". ولَنُغرينّك بهم، وكأساً من قهوة تضعه أمامك وقت الشروق لتسترِح في ظلال سطورها وتنشرح، ولتَذُق رشفة وفي ساعة المطالعة تلتذ بسُكّر القهوة وسُكّر "الأيام"، وما على الرزميت إذا طرُبَ للحونها وذابَ من شدّوها الخليج والمنارة.

هو محمد علي باشراحيل "الناشر" الذي نشر لأول مرة هذا الظلال العابق بعطر الحرية، وعاصر السنين والأيام ومراحل السياسة والحكم، ولاقت رحلته صنوفاً من تعب السنين وظلم الحاكم، لكن جريدته الفتيّة كانت سلواه وسط العذابات، ومضى يغمس ريشته في المداد يرسم الحرف وينسِّق العبارة وينقش الحقيقة، حتى صار شدواً بين عطر "الأيام" وعطر المحبرة، وورّث الموهبة لبنيه، ورغم الأذى ما برح يمتشق سيف الكتابة مرفوع الهامة ولا مطأطأ لحاكم.

وفي زمنٍ لاحق مضى "رحمه الله" على الدرب برفقة أولاده "هشام وتمام" في رحلة طويلة من النضال ومازال أذى القوم يترى، لكن ما ضعُفَت نفوسهم ولا استكانت.

وكانت كلما لذعت حروف "الأيام" جبروت الحاكم وغرزت إبَر الحقيقة في غروره، أعدّ لها حرباً، وأوصد بابها، لكن أولئك صاروا إلى زوال، لقد ذهبوا ولم يبقَ عنهم إلّا الخبر والحديث وبقيت "الأيام".

يقول الناظم:

هل عندكم خبرٌ من أهلِ أندلسٍ

فقد مضى بحديثِ القومِ ركبانُ

لقد أحاط القوم الدار بالنار، لكن الجماهير هتفت في الظالم "دع الأيام تفعلُ ما تشاء"، وهي لم تشاء إلّا الكلمة الصادقة في حدود اللياقة وحُسن الأدب.

هي جنوبية الهوى، لكنها سافرت إلى بيوت في رؤوس الجبال وبطون الأودية في شمال الشمال ونقلت الحَدَث بالخبر والصورة بمهنية لا تُضاهى، وإنما وقفت مع الجنوب لأنه ظُلم وليس لأنها تنشد العصبيّة.

"الأيام" صحيفة ليست بائسة ولا مقطّبة الوجه، لكنها واحة من سرور وحديقة من البِشر صوتها يغني كل صباح بصحبة تمام وأبناء أخيه الراحل هشام رحمه الله:

كُنْ ريِّقَ البِشرِ إنّ الحُرَّ شيمتهُ

صحيفةٌ وعليها البِشْرُ عنوانُ