مدينة القهوة

> سبق "البُن" الشاي بزمنٍ طويل، لم يكن الناس أن يعرفوا شراب الشاي إلّا في الزمن المتأخر، بل "القهوة" كانت الشراب الأصيل، وهذه القهوة التي عرفها الناس حول العالم كانت يمانية.

ألَمْ يقل العَجَم "بُنْ مُكا"، نسبوا البُن إلى "المخا" الميناء الذي كانوا يبتاعون منه هذه الحبوب الذهبية التي سمّاها أحد أدباء اليمن بالعقيق، حين صار البُن آنذاك سلعة العصر.

كانت "رحلة الشتاء" قد بدأناها من العربية السعيدة "عدن" صوب المكلا، لا شيء غير هالات الضوء تُذهلك عند المساء حين تقف على حافة "الخور"، تحس أن حضرموت زاهية مثل تاريخها الباسم.

قطعت بنا السيارة شوطاً طويلاً من المكلا إلى "المهرة"، وحين الوصول توقفنا أمام بيوت الغيظة وأنسامها فإذا بالمدينة نفحة من روح الأصالة وعَبَق من شذى العصر.

عُدنا إلى سيئون فأسرتنا أركان وزوايا "القصر" وأبوابه التي تحاكي التراث، هتفت أرواحنا من الداخل: "كان هنا السلطان، كان هنا الزمان"، أما طبيعة الرحلة فكانت مهمة وطنية وإنسانية لمتابعة إعداد خطة الحكومة لحماية الطفل وليس للتنزه، لكن تسلّينا بدقائق من الزمن في رحاب التاريخ.

في الطريق رأينا أول مدينة كونية عرفت ناطحات السحاب، إنها "شبام" الأنيقة ببيوتها الطينية التي تستطيل إلى السماء بنوافذ صغيرة مربعة.

ذهبت بنا السيارة إلى "أرض سبأ" توقفنا أمام معبد الشمس، وسِرنا في جنبات عرش بلقيس كانت لوحة آسرة قد رَجَعت بنا إلى أعماق التاريخ.

عُدنا إلى شبوة فكانت صورة عتق القديمة خلّابة والطقس بارداً فالرحلة شتوية وعسل جردان كان حاضراً.

نزلت بنا سيارة " اليونسيف" إلى سندريلا البحر، ثم استأنفنا الرحلة مجددا ظهر اليوم التالي باتجاه مدينة تعز، ووصلنا وادي "معبق" قاصدين هيجة العبد، صعدت بنا السيارة في طُرق ملتوية إلى مدينة التربة كان البرد قارصاً، ثم مضينا إلى مدينة تعز، لم يفُتنا أن نصعد إلى سفح "صَبِر"، لقد كانت المدينة مذهلة تحت الجبل والقلعة.

غادرنا الحالمة إلى "مدينة القهوة" التي اكتشفها العالم منذ قرون، كان السكون يلف ليل "المخا" الساحر بنجومه الزاهرات.

هذا المكان طالما تهافت إليه التُّجّار من كل الأقطار لشراء سلعة البُن الفاخر.

وقد مررنا قبلهِ بوادي الضباب الشهير بمائه وخضرته وجماله.

عُدنا إلى الخوخة كانت بلدة بسيطة كبساطة أهل تهامة، ثم شددنا الرحال مجدداً باتجاه مدينة عدن، شممنا ريح "باب المندب" ، كانت قوارب الصيادين تحتشد عند الشواطئ الساحرة، ثم توقفنا ليلة في عدن، واستأنفنا الرحلة مجدداً في الصباح إلى "زنجبار" القريبة من الثغر الباسم شاهدنا مزارع الموز والباباي التي تمتد على قارعة الطريق.

أتدرون ماذا لقينا في سَفَرِنا هذا؟

الملفت طيلة فترة الرحلة التي استمرت 14 يوماً أننا لقينا حفاوة استقبال، ولمسنا أجواء رائعة من الأمن والسلام، نزلنا مُدنا وزرنا أريافا وصعدنا جبالا وهبطنا أودية، وقطعنا آلاف الكيلو مترات على الإسفلت والرمل، كانت الحركة عند النقاط الأمنية سهلة وليّنة، لم تعِقنا طريق ولم نسمع طيلة الرحلة طلقة رصاص واحدة، أُبشّركم بأن "الدُّنيا بخير"، والرحلة كانت ممتعة للروح.

وليس على الشافعي عَتَب حين أنشد:

تغرّبْ عن الأوطانِ في طَلَبِ العُلى

وسافِرْ ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ

تفرُّجُ هَمٍّ واكتسابُ معيشةٍ

وعِلمٌ وآدابٌ وصُحبةُ ماجِد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى