​"اليمن من الداخل" الرؤية والمنهج

> عبدالوهاب الحراسي:

> كل عمل أدبي قد ينطوي على موقف ما يمرره المؤلف. لكن ثمة أعمال أدبية موقفية (أي أنها مبنية على موقف)...
ستستجلي هذه القراءة مباشرة وتباعا الأسئلة الأتية:

ما الذي يجعل من " اليمن من الداخل " (لمؤلفه أحمد الأغبري) وهو عمل أدبي عادي يندرج تحت أدب الرحلات، عملا أدبيا موقفيا، وله رؤية ومنهج؟
ماهو الموقف في هذا العمل؟ ماهي الرؤية وكيف يظهر المنهج؟ وما الحصيلة؟

العنوان وتاريخ النشر هما ما جعلاه عملا موقفيا. حيث جاء العنوان متناصا مع عنوان كتاب فهمي هويدي " إيران من الداخل" الذي كان شهادة على ظواهر تحول إيران إلى جمهورية إسلامية، دُونت في ثمانينيات القرن الماضي. ولكن على العكس من ذلك تأتي شهادة أحمد الأغبري، في كتابه اليمن من الداخل، على مناهضته ورفضه للتحولات السياسية الكارثية منذ خواتم 2011م وحتى اليوم، وجعل من "المكان شاهدا" على استقامة موقفه.

كما أن تاريخ النشر (2022م) لا يجعل من اليمن، قبل 2015م، مجرد ذكرى، بل حقيقة دائمة.. وذلك بدليل: أن الكتاب كان مخطوطا، قبل بدء الحرب: فقد " تم تدوين معظم هذه الرحلات خلال الفترة 2004 – 2014، باستثناء ما تم تدوينه، لاحقا عن شارع المطاعم بصنعاء ومحمية عتمة ". وهكذا يتجلى الموقف... وهو الهروب من أنقاض الحرب، ورفض البناء عليه يمنا ممزقا.
  • علاقة الرؤية بالمنهج
الرؤية/الفكرة/ النظرة هي مشروع لتحقيق قناعة لا تخلو من الرغبة.
والمنهج هو نسق منظم ومطابق لها. فحين تقرأ الرؤية فإنك تلمس المنهج. فلا فرق بينهما.

يعترف المؤلف بحضور الحرب الٲهلية اليمنية، لكنه وبسبب المنهج - الذي من طبيعته التجاهل والانتقاء - يعلن أنه سيقدم لنا شهادة " متخففة من ٲوزار الحرب " والحصيلة وطن (يمن) منتقىً حالمًا شاعريًا، موطنه الورق، ينقضه واقع اليمن الذي يعيش ويلات الحرب منذ تسع سنوات. وهو واقع لا ينكره المؤلف لكنه يصر (وهنا الرؤية) على أن اليمن الكبير الواحد والموحد هو الهوية الأصل والحقيقة: "الفكرة والهوية، المكان والإنسان ".

تلك هي الرؤية. والتي مهّد لها المؤلف في مقدمته بقوله: إن"المكان أول الدروب إلى ذاكرة الإنسان، وأهم شاهد على هويته ومنجزه الثقافي"؛ لذا فهو يقرر أن المكان، في اليمن" يؤكد واحدية المنبع الذي يتأصل فنًا بديعًا في ربوع هذا البلد؛ ليبقى شاهدا على جماله الروحي، مهما ران على السطح من تشوه، وهو تشوه يبقى غير أصيل".

وإننا مع المكان "وجدنا أنفسنا نتعامل مع فنان حقيقي أحال الجغرافيا إلى تاريخ، والتاريخ إلى ثقافة، والثقافة إلى هوية وحضارة".
ومنهجية هذا الكتاب نجدها منذ الإهداء وفي المقدمة حيث القصد والهدف من الرحلة " إعادة اكتشاف الفكرة والهوية من الداخل" وكذا نقل صورة متخففة من الحمولة الزائدة لتبعات الحرب" ، كما يتجلى المنهج في الخلط والمداخلة بين المناطق (البداية من محافظة إب، والقفز إلى صنعاء، ومنها، جنوبا، إلى عدن، و شبام حضرموت، والعودة إلى ثلاء، ثم الرجوع إلى الهجرين في حضرموت، والانتقال إلى دمت في الشمال، ومنها إلى تريم في حضرموت، مع المسافة كيلومترات بين تريم وشبام، ثم الرجوع إلى الطويلة في الشمال،...إلخ. وتبويب الكتاب وتقسيمه وترسيمه في الفهرس أو المحتويات ليس تَبَارُعًا أو فذلكة، بل بناء وتصميم وظيفي له مهمة واحدة ووحيدة هي الحماية والدفاع عن الرؤية: (اليمن الكبير وحدة جغرافية متنوعة، طبيعيا، وواحد إنسانا)، فقد ألزمنا المؤلف بالوقوف على نقطة التقاء لخمسة طرق تذهب بنا إلى خمس جهات تمتلك كل جهة ناصية نمر عليها إلى عشرين مكان/حكاية (مدينة، قرية، مدرسة وقصر، جزر ومحميات، وشارع).

كما أن ألفاظ المكان الدالة على جهوية المنطقة (الطريق، الجهة) والتي قسّمت الكتاب ليست سوى استعارة ... والحقيقة أنها قوائم لتصنيف أماكن يمنية نواصيها الخصائص المتشابهة، والمشترك الطبيعي والتاريخي والفكري والثقافي والفني للإنسان اليمني. لاشك في أن موقف المؤلف ورؤيته ومنهجه.. كل ذلك سيؤثر على أسلوبه.
  • الأسلوب
تأتي رحلة الأغبري الصحافية "اليمن من الداخل " في راهن تراجع أدب الرحلات وتراجع الناطر للمنظور:
"تخلف أدب الرحلات حاليًا ترجع إلى حرمان المسافر من تجربة الرحلة الحقيقية بكل ما فيها من عمق وإثارة واكتشاف، فقد أصبح السفر سهلًا ومتاحًا لكل الناس وفقد المسافر خصوصيته فيما يسمى بالرحلات الجماعية المنظمة سلفًا، مما جعل «السائح» الحديث يحل محل «الرحالة» القديم، فالرحالة يعني التميز والفردية والأصالة والعمق، والسائح هو المتابع السطحي الذي ترك أمور رحلته بيد غيره، يرى بعيون من نظم الرحلة، ويفهم ويصدر الأحكام المتعجلة النابعة من الآخرين وليس من ذاته، فهذا التحول من الرحالة إلى السائح يعد أحد أهم أسباب تراجع أدب الرحلات حاليًا. يضاف إلى ذلك تقدم وسائل الاتصال، خصوصًا التليفزيون والإنترنت بحيث يظن مستخدم هذه الوسائل أنه يعرف كل شيء عن العالم، وأنه زار كل مكان في العالم وهو جالس في بيته لم يتحرك من مكانه أمام شاشة التليفزيون أو الكمبيوتر".

يتبع الأغبري أسلوب الدليل أو المرشد السياحي المحترف، لكنه يربو عليه بالشغف، ويمتاز عنه بإلمامه بعدة خطابات: (خطاب فلسفي وعلم الجمال، خطاب علم الاجتماع، خطاب الأنثروبيولوجيا، خطاب الجغرافيا والخطاب الثقافي).
سنرى المؤلف يقدم للقارئ (الناظر) بطائق تعريفية عن المدن و الحواضر اليمنية، لكنه يرفض استخدام تلك البطائق، اصطلاحا ومفهوما، ويصر على أنه لا يمكن اختزال وسط بشري وغير بشري في مجرد بطاقة! ويرى أن لكل مكان ومدينة وحاضرة - في اليمن والعالم -  لها حكايتها الخاصة وخصوصيتها الفريدة، حتى لو تشابهت الكثير منها.

وكل قصصه أو حكايته لا تخلو من العناصر هذه: الجغرافيا، التضاريس، التاريخ ( الآثاري والأحفوري)، النشاط البشري، موروثًا و وإرثًا: (الفن والاقتصاد والثقافة والفلوكلور) وأخيرا شاعرية الوصف والشغف بالمكان والحديث عنه والاحتفاء به والحزن عليه:
 "ستجد نفسك بجانب شرائك منها هدايا من ينتظر عودتك منها، تكون قد بعت نفسك لها، فتحلف لها اليمين بأنك ستعود إليها مرات ومرات، بينما هي تؤكد لك بأنها ستظل تنتظرك هنا في أسواقها.." (عن صنعاء والتسوق في سوق الملح).
وعن عدن: "على الرغم من المناخ الصائف معظم أيام السنة في هذه المدينة النابتة على أرض صخرية ينقطع فيها التراب، فإن قلوب سكانها أشبه بواحات خضراء دافئة تجسد أروع قيم التعاون والتسامح والتعايش، التي تشكل على إيقاعها مجتمعا مزيجا من الأقوام، صار جزءا من نسيجها المحب لكل وافد إليها".

وعن شبام حضرموت: "المدنية التي تعلم مسبقا بقدوم زوارها، فتنتصب بناياتها من بين الرمال، واقفة بهذا التراص العجيب مبتهجة بقدومهم.. هكذا يشعر زوارها، وهم يرمونها بنظراتهم الأولى من بعيد".
وأن " جميع بنايات المدينة، تمثل حروفًا في أبجدية جمالها، بمعنى أنه بقدر تمتع كل منهن بخصوصية في بعض العناصر، يتوحدن مع الكل في التعريف بعناصر الفلسفة المعمارية لهذه المدينة، ما يجعلها أشبه بموسوعة فنية يتمايز بعضها عن كلها في تنوع يتوحد في منظومة معمارية فريدة."

وعن عدن: "على الرغم من اختلاف المؤرخين في تحديد سبب تسميتها، إلا أن عدن تبقى موطنا لتعدين من يقصدها ويلوذ بها، فتسكنه قبل أن يسكنها، فظلت عبر التاريخ مرتعا للتسامح والانفتاح والتعدد والتنوع ".
وعن ثلاء والهجرين يكشف لنا الرحالة أنهما توأمان، تطابقتا جغرافيا وتاريخيا وفنيا؛ فهما محصنتان، قائمتان على سفحي جبلين، تملكان من الشواهد الفنية والمعمارية والإنسانية الدلالة على أنهما سليلتي مملكتين يمنيتين قديمتين، كما أنها كانتا حاضرتان إسلاميتان، ومنجبتان للعلماء.

وعن الطويلة: أنها "حكاية المدينة شهادة حية لخصوصية علاقة الإنسان اليمني ببيئته"."مدينة من عالم الأساطير، حتى مناخها يشهد تحولات يومية، تنتقل معه من مدينة شمسية إلى مدينة غيوم تقترب حد لثم بيوتها".
ولن ينسى القارئ احتفاء الأغبري بتجلي روح الحزن في "شارع المطاعم" حيث يؤكد لنا أننا نقترب كثيرا من اليمن كلها.
* كاتب وناقد يمني.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى