قيل إن أحد الزعماء العرب ممن رحلوا عن الدنيا أنه قال (لقد كنا على حافة الهاوية ومع ذلك خطونا إلى الأمام) وهي من المقولات التي تطرب السامع لكنها تحمل معنى الغباء بكل صوره، فكثير من الزعماء يجيدون ابتداع المقولات، لكنها مقولات جوفاء، بلهاء، تعكس ضحالة فكر.
كنت في رحلة اضطرارية إلى إحدى الدول الشقيقة، ورحلاتي قليلة جدًّا، فأنا لا أقوى على تكاليف السفر، وذات يوم مر علي أحد أصدقائي ممن يقيمون هناك بهدف زيارة أصدقاء آخرين، كان واقفًا على الرصيف بانتظاري وكان طفله يجلس على مقعد السائق وأرجله أقصر من أن تصل إلى مداسات التحكم بالسيارة، فقلت له (ولدك يذكرنا بالسلطة في بلادنا فهي تمسك المقود والسيارة تسير على بركة الله).
كان ملتقانا اليومي في منتدى الأحلام بعدن في منزل أحد المسؤولين في السلطة آنذاك، لكنه كان جنوبيًّا متعصبًا، وكان منتدى الأحلام يضم زملاء وأصدقاء من كل جغرافيا الجنوب ما عدا المهرة، لكي أكون صادقًا مع القارئ، وهذا ليس انتقاصًا من المهرة كمحافظة مقدسة كغيرها من محافظات الجنوب ولكن هكذا جاءت الصدفة.
حينها كان يعتقد الشريك اليمني الغادر بأن الأوطان يمكن التهامها وأن الشعوب يمكن أن تستكين كما توهمت قوة الاحتلال وعبر عنها المرحوم عبدالكريم الأرياني حين قال ( لقد ألتهمنا الجنوب ولم يبقَ لنا إلا هضمه).
أو الذين يعتقدون أن القوة ثابتة وأن لها وجه واحد، رغم علمهم أن لها وجوهًا كثيرة وأنها متغيرة، وقد أثبتت هذه الحقيقة أنماط الصراع التي عصفت بالجنوب واليمن منذ انقلاب سبتمبر وثورة أكتوبر وكلاهما عاشا حالات صراع وإقصاء وإن كان في اليمن أقل حدة، وكلاهما لا زالا يعيشان حالة صراع ظاهرًا وباطنًا.
كنا في منتدى الأحلام نشبه السلطة بأنها باص يهرول في منزلق، بلا فرامل، ومن أراد الصعود فيه فعليه أن يجاريه في السرعة ومن ينزل فعليه أن يدفع ثمن النزول رضوضًا وجروحًا في جسده، هكذا كان باص السلطة في نظر رواد المنتدى.
لدينا اليوم باصات كثيرة، فهناك باص الشرعية الذي لا يتحرك ومعظم ركابه ممن يعيشون حالة (سياحة سياسية) إن جاز التعبير، لا ظهرًا ابقوا ولا أرضًا قطعوا، مجرد (تنابلة) فهم لا يفعلون شيئًا سوى ملاحقة رواتبهم الدولارية وأمورهم الشخصية، وجل هؤلاء لا يريدون للباص أن يتحرك ولا للحرب أن تنتهي.
وهناك باص الجنوب، وقد بح صوت المنادي ينادي للصعود إليه لكن البعض لا يريد الصعود والبعض الآخر يفتش عن وسيلة أخرى.
وهناك باصات أخرى بيافطات حزبية لا تحمل مشاريع وطنية، ومعظم هذه الباصات تدعي أن هدفها واحد، لكنها في لحظة ما ستجد نفسها في حالة سباق مفروض عليها، وسيعتمد فوزها في السباق على تأمين طريقها ومهارة قيادتها ومستوى صيانتها، والحليم تكفيه الإشارة.