> د. نجوان القرشي:

د. نجوان
د. نجوان
يشهد اليمن والمنطقة ككل موجة متصاعدة من التوترات الجيوسياسية التي تتشابك فيها أزمات متعددة الأبعاد، من الحروب الأهلية إلى المنافسة الإقليمية والدولية، مروراً بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تتفاقم مع مرور الوقت. في ظل هذا الواقع المضطرب، تتجلى مخاطر كبيرة تهدد استقرار المنطقة بأسرها، وبشكل خاص اليمن الذي يعاني من هشاشة أمنية وإنسانية واقتصادية غير مسبوقة. وتبرز المخاطر من احتمالية إغلاق مضائق بحرية استراتيجية مثل باب المندب ومضيق هرمز، حيث تلعب هذه المضائق دوراً محورياً في نقل الطاقة والبضائع بين آسيا وأوروبا، وإغلاقها قد ينعكس بشكل كارثي على تدفق السلع والأسواق العالمية.

باب المندب يعتبر شرياناً حيوياً يمر عبره جزء كبير من النفط والتجارة العالمية، كما أن مضيق هرمز يعد الممر الأساسي لصادرات النفط من دول الخليج. وأي إغلاق لهذا المضيقين الحيويين سيؤدي إلى تعطل حركة التجارة وارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية والوقود، وهو ما سيضاعف من معاناة الدول الفقيرة والضعيفة التي تعتمد بشكل أساسي على الاستيراد لتلبية احتياجاتها الأساسية، وفي مقدمتها اليمن. ومن هنا تتضح خطورة الوضع حيث تعتمد اليمن على الاستيراد الغذائي بنسبة تفوق التسعين بالمائة مما يجعلها الأكثر عرضة لتبعات هذه الأزمات.

يأتي تأثير هذه المخاطر على الأمن الغذائي في اليمن حاداً جداً، إذ يعيش في البلاد ما يقارب السبعة عشر مليون شخص في حالة انعدام أمن غذائي مزمن مما يجعل الأزمة الإنسانية تتفاقم بسرعة مع أي انقطاع في سلاسل التوريد. الإغلاق المحتمل للمضائق أو تمدد الصراعات سيوقف وصول المواد الغذائية الأساسية مثل القمح والزيت إلى الأسواق المحلية كما سيعقد من وصول الأدوية والمستلزمات الطبية، الأمر الذي سيزيد من معاناة السكان، خصوصاً في ظل ضعف البنية التحتية الزراعية وغياب المخزون الاستراتيجي الكافي الذي لا يتجاوز في أفضل الأحوال شهراً أو شهرين. هذا الواقع يدفع إلى ضرورة التفكير بشكل استثنائي في حلول عاجلة واستباقية قادرة على التخفيف من حدة الأزمة المقبلة.

ومن أجل مواجهة هذه التحديات المتشابكة، من الضروري اعتماد مجموعة من الإجراءات والحلول الاستثنائية التي تبدأ بتشكيل غرف طوارئ غذائية تديرها الحكومة الشرعية بشكل مستقل في كافة المحافظات التي تقع تحت سيطرتها وذلك لتنسيق عمليات الإمداد والتوزيع بكفاءة عالية. كما يلزم إنشاء مخازن استراتيجية للمواد الغذائية الأساسية مثل القمح والأرز والزيت في مناطق آمنة وتخزين هذه المواد لفترة لا تقل عن ستة أشهر لضمان توفيرها في حال توقف الاستيراد. إضافة إلى ذلك يجب إطلاق خطة زراعية طارئة تستهدف زراعة محاصيل استراتيجية كالذرة والقمح في مناطق محددة مثل تهامة وحضرموت وشبوة والبيضاء بدعم فني من منظمات أممية متخصصة. ويجب بناء شراكات مع دول القرن الأفريقي مثل إثيوبيا والسودان لاستيراد المنتجات الزراعية عبر منافذ بحرية بديلة في حال تعطلت المنافذ التقليدية.

هذا إلى جانب دعم المزارعين المحليين بتوفير الأسمدة والوقود اللازمين لزيادة الإنتاج الزراعي وإلغاء الضرائب على مستلزمات الزراعة، كما يمكن إنشاء مطابخ مجتمعية تحت إدارة مؤسسات المجتمع المدني تعمل على تقديم الغذاء اليومي للفئات الأكثر فقراً وهشاشة. كل هذه الخطوات تهدف إلى تعزيز الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وخلق نظام دعم غذائي مستدام يعزز من قدرة اليمن على مواجهة الأزمات.

الأمر لا يتوقف عند الحلول الطارئة فقط، إذ لا بد من تبني رؤية استراتيجية طويلة الأمد تعيد بناء اقتصاد البلاد الزراعي والصناعي. وفي هذا الإطار، يجب أن تركز الحكومة اليمنية الشرعية على استصلاح الأراضي الزراعية القابلة للزراعة وتطوير تقنيات الزراعة الحديثة مع التركيز على مشاريع تحلية المياه المالحة على السواحل لتوفير مياه الري بشكل مستدام. كذلك من الضروري دعم الصناعة الغذائية المحلية لتقليل الاعتماد على الواردات وتحقيق الاكتفاء الذاتي تدريجياً. فضلاً عن ذلك، توقيع اتفاقيات تجارة برية مع دول الجوار مثل سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية سيساعد في فتح منافذ بديلة ويخفف من تأثير الحصار البحري المفروض. وفي سياق دعم التنمية الاقتصادية، ينبغي تشجيع مشاركة القطاع الخاص والمغتربين اليمنيين في تمويل المشاريع الزراعية والاقتصادية الإنتاجية، الأمر الذي سيساعد على تعزيز قدرة الاقتصاد الوطني على الصمود وربما التصدير في المستقبل.

وبما أن اليمن والشرق الأوسط يواجه تحديات غير مسبوقة تتطلب نهجاً جديداً وحلولاً استثنائية قائمة على التعاون بين الحكومة الشرعية، المجتمع الدولي، والقطاع الخاص. ليس هناك وقت للتردد أو التراخي، فالملف الإنساني وملف الأمن الغذائي هما في قلب المعركة من أجل البقاء، ويجب على اليمن أن يخوض هذه المعركة بحزم، ووعي، وروح الاعتماد على الذات والسيادة الوطنية.