ربيع بيروت

> د.هشام محسن السقاف

> أدهش الشعب اللبناني العالم حين تمسك بخيارات ديمقراطية سلمية لتصحيح أوضاعه، خرج إلى الشوارع وجعل من قبر الشهيد رفيق الحريري مزاراً يومياً يؤمه المسيحي والمسلم على السواء، ويعبر الجميع من خلال مشهد زيارة الضريح عن رفضهم للحكومة ومطالبتهم بالتحقيق النزيه في مقتل الرئيس الحريري وتمسكهم بمطلب رحيل القوات السورية عن لبنان بموجب اتفاقية الطائف. والذي ينبغي التأكيد عليه أن لبنان قد وجد مبكراً في الديمقراطية ضمانته الأكيدة للحفاظ على وحدته كبلد صغير مفعم بالتنوع العرقي والمذهبي، ويكون اهتزاز لبنان وديمقراطيته حين يمارس أشقاؤه من النظم الديكتاتورية العربية نزعاتهم ونزاعاتهم وصراعهم وتصارعاتهم على أرض فردوس الديمقراطية، وكأنهم يستكثرون حالة ديمقراطية فريدة في قلب صحاري القبائل السياسية العربية المتقاتلة، فراحوا يكيدون لها كيداً ويفرغون مركبات النقص والعقد المتوارثة فيهم على لبنان وتجربته.

هذا الشعب مارس نضوجه الديمقراطي في الأيام التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري يوم 14 فبراير الماضي، بشكل مسؤول وبجرأة أذهلت الجميع وبالذات الأنظمة العربية التي لا تقر في السرّ أو العلن مثل هذا التحرك السلمي في الشوارع، وكأن الشعوب العربية أقل وعياً من شعب أوكرانيا وجورجيا أو حتى توجو الأفريقية الصغيرة. ونحن نعلم أن الظروف العالمية هي التي ألجمت الاستخبارات والجيش في لبنان وأجبرته على احترام إرادة الجماهير التي خرجت معبرة عن رفضها للأوضاع السائدة، وإلا لكانت شوارع بيروت قد شهدت ربيع براغ آخر بقوة الدبابات التي لم نرها جادة في محاربة العدو الإسرائيلي بقدر ما نراها تكشر عن أنيابها في محـاربة ذوي القـربى.

إن حرية لبنان واستقلاله أجدى لسوريا وغير سوريا من لبنان منقوص السيادة يشعر بالذل والخوف وتطارده أشباح الأجهزة السرية. وبناء علاقات متوازنة ومتساوية ومتكافئة بينه وبين سوريا أجدى للطرفين من اختلال العلاقة وتغليف المشاعر الداخلية بالغبن والاضطهاد والدونية، وأكبر مزايا دولة إسرائيل وتفوقها على العرب واحترام العالم المتحضر لها نهجها الديمقراطي وحفاظها على قيم الحرية الكاملة تجاه مواطنيها بغض النظر عمّا تعمله من جرائم تجاه العرب، وعندما كانت الأنظمة العربية تحارب إسرائيل كانت تحاربها بشعوب مقموعة مقهورة، ولذلك انتصرت إسرائيل وهزمت النظم العربية.

لا خوف على عروبة لبنان وقوميته وأصالته، فهذا الشعب علمنا كثيراً من دورس الوطنية والقومية وحرصه على عروبته، وكما قال الشاعر العربي:

لبنان علمنا عروبتنا

وبها بكلّ ديارنا بَشّرْ
فلا يجوز أن يكافأ لبنان -دائماً - ويجازى جزاء سنمار، بل علينا أن نفتح صدورنا للحلم اللبناني أن يكتمل، ويعيد للتجربة الديمقراطية وهجها العظيم الذي كان مصدر اعتزاز المواطن العربي المقموع في غير مكان من أرض العروبة، عندما ينظر إلى هذه التجربة الرائدة كنوع من التعويض عن حالة الضياع السائدة.

لقد رأينا نبض الشارع اللبناني في أزهى صوره وحالاته، وكانت جلسة مجلس النواب يوم الاثنين الماضي تعبيرا آخر عن عراقة التقاليد البرلمانية في هذا البلد، ثم تجلت حكمة رئيس الوزراء عمر كرامي الذي استجاب لضغط الشارع والبرلمان وقدّم استقالته.

إن الشعوب العربية شبّت عن الطوق، وهي ليست بأقل من شعوب الله الأخرى التي خرجت إلى الشوارع في وجه حكام طغاة، وجدير بالنظم السياسية العربية أن تستوعب دروس العصر بواقعية وعقلانية لتتلاءم مع المتغيرات، وأن تبادر هي إلى إحداث التغيير الذي ترجوه الجماهير وتصبو إليه، قبل أن تضطر الجماهير إلى الخروج إلى الشوارع، أو أن تأتي القوى الدولية بعصاها الغليظة لإحداث - أو بحجة إحداث التغيير.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى