التضخم في اليمن

> محمد عبداللـه باشراحيل

> أولاً: المقدمة...من البديهيات في الاقتصاد السياسي بوجه عام أن الاستقرار السياسي في بلد ما يؤدي إلى استقرار اقتصادي، والاستقرار الاقتصادي يؤدي بدوره إلى تنمية اقتصادية، وبالتالي إلى تحسن المستوى للإنسان في ذلك البلد والعكس صحيح.

وقد عانى اليمن الكثير من عدم الاستقرار السياسي الذي عكس نفسه سلباً على الاقتصاد، وعلى المستوى المعيشي للإنسان اليمني خلال الفترة التي سبقت الوحدة المباركة وما بعدها أيضاً. ولسنا هنا بسبب الخوض في تفاصيل عن الأزمات السياسية التي مر بها اليمن خلال تلك الفترة، ولكننا نقول إن الفوضى السياسية وما نتج عنها من عدم انضباط للحكم المركزي، وعدم الالتزام بالقوانين وما رافقه من نهب وتفشٍّ فظيع للرشوات، وفساد إداري رهيب دفع ثمنه غالياً الشعب اليمني، وقد أدت تلك الأمور إلى ما يسمى بعدم الاستقرار السياسي الذي أفرزت عنه مشاكل اقتصادية كان من أبرزها التضخم. فما هو التضخم، وما هي أنواعه وما هي طبيعته في اليمن، وما هي الحلول المقترحة للحد منه أو القضاء عليه نسبياً؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه بإيجاز متواضع.

ثانياً: ما هو التضخم؟
بالرغم من أن التضخم يعتبر من أقدم المشاكل والأمراض الاقتصادية التي تم تشخيصها إلا أنه ليس هناك اتفاق كامل حول أسباب ووسائل علاجها، ولعل أبسط تعريف للتضخم هو عملية ارتفاع مستمر في المستوى العام للأسعار، وعلى مدى فترة زمينة طويلة. كما يعرف التضخم أيضاً بأنه عملية انخفاض مستمر في القيمة للنقود، ويرى البعض أن الارتفاع في الأسعار ينتج عن الارتفاع في الأجور وفي أسعار السلع المستوردة ويسبق الزيادات في كمية النقود، كما يربط البعض الآخر التضخم بعوامل أخرى، مثل سعر صرف العملات الأجنبية والاستخدام والإنتاج والدخل الحقيقي، ومدى تكون رأس المال وحتى قوانين الأحزاب والعمل النقابي.

ثالثا: أنواع التضخم
وأنواع التضخم عدة منها:

(1) التضخم الزاحف Crawling Inflation والذي يتصف بارتفاع بطيء في الأسعار لا يتجاوز 10% سنوياً خلال فترة يكون فيها النمو في الطلب الكلي معتدلاً، وفي هذه الحالة لا يحاول الأفراد التخلص من نقودهم المدخرة.

(2) التضخضم المكبوت Repressed Inflation وتمثله الحالة التي تتدخل الدولة فيها لمنع الأسعار من الارتفاع رغم الحجم الكبير من الطلب الكلي، وذلك من خلال التسعيرة الإجبارية ووضع ضوابط مالية تحد كلها من الإنفاق الكلي وتحول دون ارتفاع الأسعار، ولكن بصورة مؤقتة، لأن ذلك لن يحول دون قيام الجمهور أن يحول مدخراته النقدية إلى قوة شرائية في وقت لاحق تجعل منه مصدراً مهماً لتضخم كامن يجرى تنشيطه في وقت ما، وهذا ما حصل في الشطر الجنوبي قبل الوحدة عندما ارتفعت الأسعار في السلع غير المدعومة من جهة وعدم سيطرة الدولة كلياً على حركة العملات الصعبة وضوابطها من جهة أخرى، لأن تحويلات المغتربين أًصبحت تأتي عبر الأفراد بأساليب مختلفة بدلاً من أن تأتي عبر البنوك وبالسعر الرسمي، وهو أمر كان يصعب على الدولة ضبطه أو مراقبته.

(3) التضخم الجامح Galloping Inflation وهو الذي ترتفع فيه الأسعار بمعدلات عالية نسبياً تفوق نسبة الـ 50% سنوياً، وهذا ما حصل في الأرجنتين والبرازيل. وتنشأ إرباكات اقتصادية خطيرة إذا ما تحكم مثل هذا التخضم في اقتصاد ما، ويلجأ الناس والشركات بقياس الاتفاقيات والعقود بالعملات الصعبة الأجنبية أو برقم قياسي للأسعار، لأن النقود الوطنية تفقد قيمتها الحقيقية بسرعة كبيرة، وهذا يؤدي إلي أن يقوم الأفراد باختزان السلع وشراء العقارات والعملات الصعبة والذهب أو استثمارها في الخارج، كما لا تقوم المؤسسات المالية أو الأفراد بإقراض شيء من أموالهم بأسعار فائدة حقيقية سالبة، ويتحاشون الاحتفاظ بأرصدة نقدية من العملة الوطنية إلا في الحدود الضيقة اللازمة لمعاملاتهم اليومية.

(4) التضخم المفرط Hyper Inflation وفيه ترتفع الأسعار بمعدلات عالية جداً وتزداد فيه سرعة تداول النقود، وتتوقف النقود الوطنية تقريباً عن العمل كأداة للقيمة والادخار، وفي التضخم المفرط تصل معدلات ارتفاع الأسعار فيها ما يفوق الـ 50 % شهرياً والـ 1000% سنوياً، وهي حالات اقترنت بالحروب والأزمات الاقتصادية والسياسية وعدم الاستقرار الاجتماعي، وهذا ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى في عامي 1922، 1923 وبعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، وكما حدث في العراق بعد حرب عام 1990، حيث أدت الزيادة في طبع العملة أو عرض النقد إلى ارتفاع في الأسعار أدى بدوره إلى فقدان العملة الوطنية قيمتها كوسيلة تبادل وكمقياس للقيمة الحقيقة، الأمر الذي قاد إلى التقويم بالعملات الصعبة الأجنبية.

رابعاً: طبيعة التضخم في اليمن
إذا ما أخذنا الفترة ما قبل عام 1990 فإننا نلاحظ أن الصراعات السياسية بين شطري اليمن من جهة، وداخل كل شطر منها خلال الفترة التي سبقت الوحدة عام 90 من جهة ثانية، إضافة إلى ما هو معروف عن هيكل الاقتصاد اليمني وضعف انخفاض بنيته وانخفاض الإنتاجية في معظم قطاعاته، وما لحق بالجمهورية اليمنية من أزمات واضطربات سياسية، وما تبع الوحدة مباشرة من زيادات في الأجور والمرتبات دون دراسة تضع في الاعتبار العوامل الحقيقية كالاستخدام والإنتاج والدخل الحقيقي والاستثمار وسعر الصرف وغيرها وعلى حساب زيادات غير طبيعية في عرض النقد (طبع العملة)، ناهيك عن تكاليف الحرب عام 1994، وما رافقها من تدمير ونهب للمتلكات العامة والخاصة وصلت حسب التصريحات الرسمية إلى ما يزيد عن ثمانية بليون دولار أمركي، إضافة إلى المشاكل الأمنية في صعدة عام 2004، وبداية هذا العام، كل تلك الأمور في مجملها، أدت إلى تضخم وهذا ما تؤكده المؤشرات الآتية: انظر الجدول(1)

هذه البيانات (في الجدول) مصدرها كتاب الإحصاء السنوي لعام 2003 والصادر في يونيو 2004 عن الجهاز المركزي للإحصاء حتى عام 2003، أما عاما 2004 و 2005 فقد قام بتقديرها الباحث بناءً على مؤشرات مصادر دولية وخبرته الشخصية في هذا المجال.

ويتضح من الجدول أعلاه أن الأسعار بوجه عام تتجه نحو الارتفاع بصورة مذهلة ومخيفة، إذ يلاحظ أن الرقم القياسي العام للأسعار قد وصل عام 2003 حسب المصادر الرسمية إلى 1336% مقارنة بنفس العام، وهذا يعني أن المواد الغذائية قد تخطت 1800% مقارنة بنفس العام. هذا يعني أن المواد الغذائية التي كانت تشترى بـ 100 ريال عام 1990 قد وصل سعرها إلى 1821 ريالا عام 2003، ويتوقع الباحث أن تصل في عام 2005 إلى ما قيمته 2430 في حين كانت عام 1990 سعرها 100 ريال، الأمر الذي يعكس أن طبيعة التضخم في اليمن قد تجاوزت ما أسميناه بالتضخم الزاحف، وتعدت التضخم المكبوت وأشرفت على التضخم الجامح، والخوف كل الخوف أن يكون الحال بداية عد تنازلي إلى تضخم مفرط، وهو أمر لن تحمد عقباه لا على الحاكم ولا على المحكوم.

وهنا أنوه الجهات المسؤولة وأطلب منها أن تتواضع وتعيد النظر - وبدون تأخير- في هيكل الأجور والمرتبات المزمع تنفيذه في يوليو القادم من هذا العام، وكذا ألفت نظر السادة أعضاء مجلس النواب عند مناقشتهم استراتيجية وقانون الأجور والمرتبات أن يضعوا نصب أعينهم وفي المقام الأول وقبل كل شيء المستوى المعيشي والتخفيف من معاناة الموظف والمواطن، قال تعالى {الذي أطمعهم من جوع وآمنهم من خوف} أي أن الحياة المعيشية (توفير الغذاء) قبل الأمان وكلاهما أساسيان للحياة.

أما إذا أخذنا بعض المؤشرات مثل النفقات الحكومية والاستثمار والصادرات ونسبناها إلى الناتج المحلي الإجمالي، فإننا نلاحظ الآتي: انظر الجدول(2).. تعتبر نسبة الإنفاق الحكومي عالية، وهي في حالة ازدياد نسبي وصل 38% من الناتج المحلي عام 2003 إذا ما قورنت نفس النسبة بكل من مصر وسوريا - وهما دولتا مواجهة - حيث لا تتجاوز 11% على التوالي. أما نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي فهي منخفضة أيضاً إذ لا تزيد عن 15% عام 2003 في حين تصل في مصر وسوريا إلى أكثر من 20 %.

خامساً: الخلاصة والحلول المقترحة
نخلص من هذا إلى أن التضخم في اليمن مشكلة سياسية اقتصادية متداخلة يمكن حلها سياسياً باتخاذ الإجراءات المناسبة والتفاهم العقلاني بين القوى السياسية في اليمن، والتخلص من السلوكيات الناشئة من ردود الأفعال، وقبول الآخر، وارتفاع كل القوى والأحزاب إلى مستوى المسؤولية بهدف استتباب الأمن والاستقرار الذي يعتبر من أهم العوامل المؤدية إلى الاستقرار الاقتصادي، والعمل على بناء مؤسسات الدولة ودعمها في ممارسة اختصاصاتها المحددة دون تجاوز أو تراجع في حقها المشروع أو تدخل في المهام، وذلك لتتمكن من القيام بدور فعال في الحياة العامة، وتساعد في إرساء دعائم دولة النظام والقانون، ليسود الأمن والعدل في البلاد، هذا إلى جانب ضرورة الاهتمام بالمؤسسة المالية وأجهزتها المختلفة، وإعادة تنظيمها ووضع ضوابط قانونية تحكمها وتفعيل أجهزة الرقابة المالية ودعمها بالعناصر المتخصصة من ذوي الخبرة. أما اقتصادياً وأمام المؤشرات التي بيناها سلفاًِ، فمن الضروري تقليص الإنفاق الحكومي ما أمكن ومنع الهدر والإسراف، وزيادة الاستثمارات الحكومية، وتشجيع الاستثمار الخاص مع ضمان نزاهة القضاء، واستغلال الطاقة الانتاجية العاطلة، ورفع وتيرة الانتاج المحلي بتوفير المناخ الملائم له، والتركيز على الثروات الطبيعية الواعدة كالنفط والمعادن والأسماك، والاهتمام بالهياكل الاقتصادية الأساسية، وذلك ضمن برامج عمل وخطة اقتصادية اجتماعية متوازنة طويلة الأمد وذات بعد حضاري. ونقترح أن تشارك في وضع خطوطها العريضة وبروح ديمقراطية وسعة صدر كل الأحزاب والقوى السياسية والعمالية والشخصيات الوطنية والعلمية والمتخصصون، فالوطن يتسع للجميع وليس حكراً على فريق واحد، كما أنه بالإمكان إشراك خبراء من منظمات عربية ودولية ومن دول أخرى للاستفادة من تجاربهم والتعرف عن قرب على ما يدور اليوم في عالمنا من تغيرات قادمة، والاستعداد لها قبل أن نفاجأ بها.

ولكن في اعتقادنا لا يمكن تحقيق كل ذلك إلا بإبعاد العناصر الفاسدة من مواقع اتخاذ القرار في المواقع الحساسة ذات الصلة، مدنية كانت أم عسكرية، وتطبيق مبدأ الجزاء بمكافأة الجيد في عمله مادياً ومعنوياً ومعاقبة المسيء إلى عمله. إن الأمور التي أشرنا لها - أكانت اقتصادية أم سياسية- متشابكة ومتداخلة، وكل عنصر فيها تؤثر إيجابيته على العناصر الأخرى، والعكس صحيح، وهي في مجموعها أفرزت التضخم الذي تحدثنا عنه مثلماً أفرزت الفساد وغيره من السلبيات، وأنه بقدر تغلبنا على تلك المشكلات بقدر ما نكون أقرب إلى حل مشكلة التضخم.

أبريل 2005م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى