في الوقت الذي كنّا، نحن أبناء الجنوب، ننادي – بصوت مرتفع وبمطالبات حثيثة – بضرورة انتقال مكاتب المنظمات الدولية العاملة في اليمن من صنعاء إلى العاصمة الجنوبية عدن، وإعادة الاعتبار لمكانة عدن كعاصمة سياسية وقانونية وإدارية، كان الهدف أسمى من مجرد حضور رمزي أو تمثيل إداري؛ كان طموحنا أن تعود عدن ساحة للفعل الحقوقي والرقابة الإنسانية والمرافعة الأخلاقية.
طالبنا بذلك مرارًا، عبر وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وعبر الأخ الوزير شخصيًا، وفي مخاطبات رسمية ولقاءات ميدانية، حتى بدأنا نشهد انتقالًا تدريجيًا لبعض هذه المنظمات، وتأسيس مكاتب فعلية لها في عدن، بعد أن ظلت طويلاً مرتهنة لهيمنة سياسية وميدانية لا تتسق مع مبادئ الحياد والاستقلال.
لكن السؤال اليوم: هل حافظنا نحن على المناخ الذي يجعل من عدن عاصمة حقيقية للعمل الحقوقي الدولي؟
وهل قدّمنا النموذج الذي كنا نطالب به العالم ليراه؟
أم أننا – بكل مرارة – وضعنا تلك المنظمات أمام مشهد يُعيد إلى الذاكرة فصولًا كنا نظنّ أننا تجاوزناها مع زوال النظام السابق وسنواته الجائرة؟
حادثة احتجاز الزميلة المحامية عفراء خالد حريري، والناشطة الحقوقية المعروفة، في حوش قسم شرطة المعلا، تشكّل انتكاسة مقلقة في سياق بناء البيئة المدنية الآمنة، وهي بيئة من المفترض أن تُوفَّر فيها الحماية القانونية لكل من يمارس حقه السلمي في التعبير، لا أن يُعامَل كما لو كان هدفًا يُصطاد في غفلة من القانون والدستور.
ليست القضية في أن الاحتجاز قد انتهى، ولا في أن سُمح لها بالمغادرة بعد اتصالات وتدخلات؛ بل في الكيفية والأسلوب والسلوك الذي يكشف عن فجوة كبيرة بين ما يجب أن يكون عليه رجل الأمن في ظل الجنوب الجديد، وما زلنا نشهده من ممارسات لا تمت للقانون بصلة.
ما وصفته الزميلة المحامية في مقالها، وهو شهادة نابعة من الوجع أكثر من كونها سردًا، يضعنا جميعًا – قانونيين، وحقوقيين، ومسؤولين – أمام مرآة الحقيقة.
فحين تصبح "اليافطة" جريمة، وحين تصبح المرأة المواطنة والمحامية والمدافعة عن الحقوق "صيدة" أمنية، وتُقاد بعنف وصمت إلى قسم شرطة بلا مذكرة، ولا إجراء قانوني، فإننا أمام مشهد لا يليق بعدن ولا بتاريخها، ولا يتماشى مع ما نسعى إليه كدولة جنوبية تُبنى على أسس العدالة والمؤسسات.
ما جرى ليس حادثة فردية، بل مؤشر على خلل في الفهم العام لوظيفة رجل الأمن، ولحدود السلطة، ولقدسية الحق القانوني والإنساني في الاحتجاج السلمي.
وليس صحيحًا أن نُترك عرضة لتأويلات مقلقة، بين من يصف رجال أمننا بالمليشيات – زورًا – ومن يبرر كل خطأ أمني بأنه حماية للنظام العام.
إن احترام القانون لا يتحقق إلا حين يحترمه من يحمل أدوات تطبيقه، وإن الكرامة الإنسانية لا تُجزأ، ولا تقبل الانتظار على أبواب الأقسام أو خلف بوابات مغلقة تطلب قارورة ماء فلا تجدها.
المطالبة بالحقوق ليست جريمة، والسكوت عن الإهانة هو الخطر الحقيقي على مشروع الدولة.
ونحن إذ نكتب اليوم لا ندين فقط ما حدث للمحامية عفراء، بل نطالب بإعادة النظر في سلوكيات رجال إنفاذ القانون، وتدريبهم، ومحاسبتهم عند الخطأ، كما نؤكد على ضرورة تفعيل مدونات قواعد السلوك والضوابط الدولية التي طالما طالبت بها المنظمات التي استبشرنا بقدومها إلى عدن، كي لا تجد نفسها شاهدة على واقع يناقض ما سُمي من قبل بـ"عدالة الجنوب".
عدن لا تستحق أن تُخذل بهذه الطريقة، ولا يستحق شعبها أن يُواجه بالترهيب بدلًا من الاحترام.
وما نكتبه اليوم هو لأجل ألا يتحول هذا الحادث إلى قاعدة، بل ليبقى استثناءً يجب ألا يتكرر.
والله من وراء القصد.