مدينة عدن، بتاريخها العريق وثقافتها المتعددة، لا تُمثل فقط مساحة جغرافية، بل تختزن في مبانيها ومنشآتها إرثًا حضاريًا شكل وجدان أهلها، ورسّخ خصوصيتها كمركز مدني وإنساني وتاريخي. لكن هذه المدينة تواجه اليوم محنة قاسية تتجلى في التعدي والإهمال والعبث بمبانيها ومنشآتها التراثية، ما يستدعي وقفة جادة ومسؤولة من كافة الجهات، قانونية وإدارية ومجتمعية، محلية ودولية، لحماية ما تبقى من ملامحها الأصلية.
جمعية الحفاظ على تاريخ عدن، برئاسة الدكتور هشام محسن السقاف والدكتورة أسماء العلس.
كل هؤلاء وغيرهم قدموا مساهمات علمية ومجتمعية عميقة كان يجب أن تتحول إلى خطط حماية ومشاريع قانونية.
وفي هذا السياق، يبرز دور المجلس الانتقالي الجنوبي، خصوصًا عبر دائرته الثقافية، في الدفاع عن الهوية الثقافية والذاكرة المؤسِّسة للجنوب وعدن تحديدًا، ويتحتم تعميق هذا الدور في السياسات الرسمية.
ويؤكد قانون الهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني أن زوال صفة المنفعة العامة لا يتم إلا بموجب قرار قضائي أو من سلطة عامة مخولة، وأن أي مبنى تاريخي أو أثري لا يجوز التعدي عليه أو تغيير طبيعته أو استخدامه.
مستشار قانوني لدى الهيئة العامة للآثار والمتاحف – عدن
- العبث المتواصل بالمنشآت التاريخية
تعاني عدد من المعالم التاريخية في عدن من تغييب وظيفي وتشويه معالم وتغيير استخدامات، دون أي سند قانوني. المكتبة الوطنية في كريتر (مكتبة عبدالله عبدالرزاق باذيب)، المتحف الحربي (قصر السلطان)، مبنى الضرائب، مدارس ونوادٍ أنشأتها جاليات كالهندية و الصومالية واليهودية، منارة عدن، صهاريج الطويلة، ومساجد أثرية كمسجد أبان والفارسي، كلها أمثلة حية على ما تتعرض له المدينة من طمس لهويتها، بعضها بحجة التحديث أو تحت ذريعة الهوية اليمنية، وهي ذرائع تضرب صميم الإرث الثقافي العدني.
وتبعًا لما أوردناه، فإن الاستناد إلى قانون الاستملاك للمنفعة العامة رقم (1) لسنة 1995 يوضح أن أي تغيير في ملكية أو وظيفة أي منشأة يجب أن يتم بقرار معلل، ووفق معايير صارمة تشمل التعويض العادل، وتحديد المنفعة العامة بوضوح. وما يحدث حاليًا من تغييرات عشوائية يمثل مخالفة صريحة للدستور والقانون.
- المبادرات المجتمعية ودور المثقفين
جمعية الحفاظ على تاريخ عدن، برئاسة الدكتور هشام محسن السقاف والدكتورة أسماء العلس.
- مبادرات الناشط الثقافي وديع أمان
كل هؤلاء وغيرهم قدموا مساهمات علمية ومجتمعية عميقة كان يجب أن تتحول إلى خطط حماية ومشاريع قانونية.
- الاستحقاق القانوني والدولي
لقد أولت منظمة اليونيسكو بالتنسيق مع السلطة المحلية اهتمامًا خاصًا بمدينة عدن التاريخية، عبر شراكات مع الهيئة العامة للآثار والمتاحف، هيئة الحفاظ على المدن التاريخية، مكتب الثقافة، صندوق التنمية، وكذا مكتب المحافظ، بالإضافة إلى الجهات الأكاديمية مثل كلية الآداب (قسم التاريخ والآثار)، ووزارة المساحة الجيولوجية. كما يُسجّل للمهندس معروف عقبة دوره المتميز في المتابعة الميدانية وإعداد المذكرات وتوثيق حالات الانتهاك في عدة مواقع.
العدوان على المكتبة الوطنية (مكتبة باذيب) ..المكتبة الوطنية في كريتر، المعروفة زمنياً باسم مكتبة المفكر الراحل عبدالله عبدالرزاق باذيب، والتي كانت إحدى مدارس الجالية اليهودية، تحولت إلى ما يشبه السوق الشعبي، تُعلّق الملابس النسائية على جدرانها، فيما المساحة المخصصة لها مُصادرة من قبل الباعة.
أما ميزانيتها التشغيلية الرسمية فلا تتجاوز 8000 ريال شهريًا، وهو مبلغ لا يليق بمكتبة تُعد منارة فكر وأرشيف مدينة كاملة. وللأسف، يطول التشويه أيضًا مبنى المتحف العسكري – الذي كان في الأصل مدرسة الإقامة – والذي نُهبت محتوياته، بما فيها سيارات أهديت لاحقًا من علي محسن الأحمر إلى متاحف صنعاء خلال عهد المنظومة السابقة التي حكمت الجنوب بالقوة. استولى عليها دون حق يذكر!.
- السند القضائي: حماية الأعيان الثقافية المهربة
- دور الجاليات في بناء الهوية العدنية
- السوق الخلفي للمتحف العسكري ومسؤولية وزارة الدفاع
من المهم التنويه إلى السوق المعروف بـ"سوق البز" خلف المتحف العسكري، والذي يقع تحت مسؤولية التوجيه المعنوي لوزارة الدفاع. هذا السوق ملحق بالمتحف الذي كان قبل الاستقلال مدرسة الإقامة، أي منشأة تعليمية تم تحويلها لاحقًا إلى متحف يوثق لحقبة مهمة من تاريخ الجنوب وعدن. المحاولات الجارية للعبث به واستغلال مساحته بشكل غير قانوني تشكل تهديدًا واضحًا لوظيفته التاريخية.
- رسالة إلى الداخل والخارج
إن ما يحدث في عدن من تآكل للهوية المعمارية والثقافية ليس شأنًا محليًا فحسب، بل هو قضية تخص الإنسانية جمعاء، وعدن ليست مجرد مدينة، بل سجل حي للحضارات. إن حماية تاريخها مسؤولية أخلاقية وقانونية ودستورية.
ندعو الجهات المحلية والدولية، وفي مقدمتها منظمة اليونيسكو والمجلس الانتقالي الجنوبي، وكل الجهات المعنية بالثقافة والعدالة، إلى اتخاذ إجراءات جادة وعاجلة لحماية هذا الإرث، قبل أن تضيع ملامحه تحت غبار الإهمال وسوء النية.