​رنت بناظري، و أجول ببصري في مدينةٍ ما عادت تُشبه نفسها ، مدينةٌ خمدت فيها أنفاس الثقافة، كما تنطفئ شمعة في مهب ريحٍ بلا رحمة. اندثرت الحوارات، و تبخرت ملامح التعدد، و جفّت ينابيع الفكر، و تحوّلت المنابر إلى أصداء لصوتٍ واحد، لا يسمع سوى نفسه، ولا يرى في المرايا غير ظله ،احتضنت هذه المدينة، كما مضى، عقيدة واحدة، و فكرًا واحدًا، في صومعة الحزب الأوحد، الذي يأبى أن يعترف بأن الشمس تشرق من نوافذ متعددة. ذاك الحزب، أو مَن تبقّى منه، لا يزال يظن أن عدن يمكن أن تُدار بمنطق الطاعة، وأن الثقافة يمكن أن تُصاغ بمنشور داخلي أو بيان ختامي.

لكني لا أُحمّل الزمن وحده ما جرى. فالزمن بريء فقد كان كفيلًا – كعادته – بتبديل المراحل، وتقليب الأحوال، وصهر الأشياء في بوتقة التغيير.
لكن الكارثة حين يُلقى بكل هذا الإرث الثقافي في حضن السلطة، فتتحوّل الثقافة إلى أداة، لا إلى روح. وتصبح حرية الفكر مشروطة بختمِ (الأمر الواقع عدن)...من هنا وُلد الفن كما يُولد الفجر.

من هنا مشى الشعر على الأرصفة، وتهادت رائحة البخور من نوافذ البيوت، واختلط نغم العود بأصوات الباعة، وتزينت المدينة بميزان أهلها: في الذوق، والعدل، والاتزان. كيف لعدن – وهي المدينة التي علّمت المشرق معنى التعدد – أن تُختصر اليوم في شعارٍ موجه، أو تُختزل في شكل معين تمتهن الظهور ولا تفهم الجذور؟ اليوم، للثقافة حساباتها. لها "ناسها الجدد"، ومنظماتها البديلة، وكراسيها التي تُوزّع وفق الولاءات لا الكفاءات. يتهافت البدلاء على عدن، ليس حبًا فيها، بل شهوةً لحصادها.

يركضون نحو المهرجانات، ويتسابقون على فعاليات الذاكرة، لا ليُحيوا روحها، بل ليضعوا أيديهم على إرثها… كأنهم يملكون مفاتيح خزينةٍ عمرها قرن.

نصب أعينهم ليس الهوية، بل "من أين يبدأ الحصاد؟ من أيِّ مشروع؟ ومن أيِّ ممرٍ يفضي إلى مكاسب باسم الفن، باسم التاريخ، باسم عدن؟ لكن ما يجهله هؤلاء – أو يتجاهلونه – أن عدن لا تُؤكل هكذا. عدن لا تُختصر في عرضٍ مسرحي ولا في بيانٍ صحفي. عدن تُعاش… عدن تُفهم… عدن تُحسّ. وعدن لا تعطي نفسها لمن لا يحمل في قلبه جرحها، و نبضها، و شموخها، و انكسارها. عدن لا تموت. لكنها تختنق.

والثقافة لا تُصادَر. لكنها تُهان حين يُقالبها المنتفعون. ومن أراد أن يتحدث باسم عدن، فليغتسل أولًا من نوايا الحصاد، و ليقف بين أهلها، لا فوقهم.

رسالة هذا النص ليست إلى مؤسسة بعينها، بل إلى كل من يحاول أن يختزل عدن في بُعد واحد، أو يمسك بدفّتها الثقافية دون أن يفهم تاريخها.

الثقافة ليست وظيفة، ولا محطة عبور، ولا طاولة تسويات. الثقافة في عدن هي العمق، هي الوجدان، هي الهوية التي لا تُباع ولا تُشترى.فالانتباه الانتباه من تقزيم عدن. ومن أن ينقلب الفن إلى أداة طمس، و التاريخ إلى واجهة مزيّفة.

عدن أكبر بثقافتها … ومن كل من يراها وسيلة لا غاية.