سنة حلوة يا فساد!

> سعيد عولقي :

> نفسي تنازعني على نفسي لأكتم الكلمات فيها أو أكتب.. فأقول لنفسي: وماذا تنفع الكلمات إذا لم تخرج معانيها عن النص فتفعل فعلها قبل أن تموت أو تقتلني المعاني فأموت وأستريح من البحث عن كلماتها؟! أنا من هواة الخروج عن النص، وأتابع صيد الغزلان في البراري والأيائل في مرتفعات جبالنا اليمنية الوعرة.. لكنني فجأة أصاب بالعقم فلا أقدر على التمييز بين الصياد والطريدة.. فجأة أجد نفسي غير قادر على الدهشة.. أبكي عجزي عن فهم سياسة بلادي تجاه وديانها وجبالها وغاباتها وأحراشها في الجنوب وفي الشمال وفي الشرق وفي الغرب وفي الوسط وفوق وتحت.. في الأعلى وفي الأسفل.. هناك في مركز الوطن.. في المركز تماماً حيث لا تموت الخطايا الاّ إذا غرزت سيفك في الباطن وأخذت تضغط عليه.. تضغط وتضغط وتضغط بكل قوتك والسيف يمضي في طريقه مخترقاً كل شيء ليصل إلى هدفه في الباطن.. في مركز الأرض.. في المركز تماماً.. عندئذ تموت الخطايا.. ربما.. أو تكف عن التناسل.. ربما.. وعندئذ فقط يكون لنا وطن قد يعود.. أو أنه موجود ولكننا لا نراه ونريد أن نراه لأننا نحلم منذ زمن بعيد أن نراه.

أريد أن أفهم سياسة بلادي لأستريح وأكف عن البكاء منها وعليها فلا أعود أرى فيها سوى سلسلة محزنة من الأخطاء والخطايا وخيبات الأمل.. فقط أريد أن أفهم لأن حزني وإشفاقي لا ينحصر فقط على عامة الناس الذين تقع على رؤوسهم أوزار رسم وتخطيط وتنفيذ هذه السياسة أو السياسات.. بل إنه بالمثل يشمل صناع هذه السياسة أو السياسات من ذوي السلطات الذين لا أجد وصفاً أصفهم به غير أنهم بؤساء ومساكين يستحقون الرثاء لأنهم بعلم أو بغير علم يضرون أنفسهم - بنفس القدر أو بأقل منه- مثلما يضرون أبناء شعبهم ويعرضون أنفسهم وشعبهم لسخرية معيبة يعجزني فهمي القاصر عن إدراك حكمتها الفلسفية وجدواها.. يقول لي أحدهم: من أي بلد أنت؟ فأجيبه بأنني من اليمن، فيقول إن إجابتي ناقصة ويسألني أن أقول الصدق فأقول له ببلاهة أنا مواطن يمني من هذه البلاد، فيبتسم بلؤم قائلاً: تكلم بصراحة وأجب إجابة كاملة غير منقوصة.. فاستدركت وقلت له: عندك حق فأنا من رعايا الجمهورية اليمنية.. امتعض وسأل: من الرعايا وإلاّ من المواطنين؟ قلت له: على كيفك وزي ما تشتي، نقي لك الجواب اللي يريحك.. قال: ليش وهل هناك فرق بين الاثنين؟ قلت: والله أنت أدري مني مش انتو الحكومة وتفهموا كل الكلام؟ أنا كل اللي أعرفه أنه البطاطا لازم الواحد يأكلها وهي ساخنة لأنها لو بردت يستوي طعمها ماسخ!

قاطعني المستر مسؤول بقوله: ماعليك من ذا الكلام.. قل لي أيش الفرق بين المواطنين والرعايا؟ أجبته بسرعة: الفرق هو أن المواطنين يتدعسوا كل يوم والرعايا يتدعسوا أكثر منهم. استشاط المستر مدعياً الغضب وقال: كيف يصير مثل هذا التدعيس الوطني ونحن في دولة نظام وقانون ومؤسسات ومجالس وكراسي وتعددية وديمقراطية.. وقبلما يخلص سرد طقم الأسامي والشعارات جاء دوري لمقاطعته فقلت له: ولكن يا سيدي الفاضل إن الفساد موجود بكثافة في كل هذه التباتيك التي تكرمت بذكرها لذلك فنحن في اليمن خايصين. قال: كيف يعني؟ أيش تقصد؟ قلت له: تسمح لي أسألك سؤال وما باتزعلش مني؟ قال: اسأل.. فسألته: أنت مثلاً، هل أنت طازج أم فاسد؟ قال في ضيق ظاهر: أنا ما افهمش كلامك هذا وكل اللف والدوران اللي فيه.. انت صحيح يمني؟ من وين انته؟ ها؟ قلت له: أنا من عدن محافظة الناس المدقدقين في اليمن أصحاب السكند كلاس (nd CLASS2) في المواطنة والثرد كلاس والدار فايف (بعد دار فور السودانية) وينحدر بنا المعراج الاجتماعي إلى الكلاس السابع، ولولا أن المقادير السعيدة قد حبتنا بتعيين الاستاذ الدكتور يحيى الشعيبي المشهود له بعفة النفس وطهارة اليد محافظاً لمحافظة عدن لتوجه منا من توجه إلى مصحات الأمراض النفسية والعصبية أو إلى أقرب البقالات لشراء سكاكين حادة لغرض الانتحار والخلاص من الهذيان الجنوني والصمرقعيشن الذي فرقص لنا البراصات وخلانا بلا ديرة ولا سكان سقا الله روضة الخلان.

قال لي المستر المحترم: انت أيش تقول.. أنا ما اقدرش أفهم لغتك بصراحة.. كلمني عربي! قلت: ماله قد قلنا من بداية هذا الهدار انني لا أفهم سياساتكم ولا عبادتكم للفساد وانتم تتكلمون عن الإصلاح.. قلت لك لازم الواحد يأكل البطاطا قبل ما تبرد. قال وهو يحك رأسه ويتفرس ناظراً إلى وجهي المليح وكأنه يشاور عقله أيش من حبس يناسبني.. قال: انت باين عليك تحب الانفصال! قلت له: لا وحياتك أنا بصراحة أحب الفساد أكثر حتى إننا بالأمارة أحتفل به كل سنة وأوقد له الشموع وأغني له: «سنة حلوة يا فساد!».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى