كلام عن التنمية والتحديث والمظاهر

> محمد عبدالله باشراحيل :

>
محمد عبدالله باشراحيل
محمد عبدالله باشراحيل
عرّف البعض التنمية بمفهوم ضيق على أنها «تحسين للمستوى المعيشي للإنسان وتوفير الأمن والخدمات الصحية والتعليمية له باعتبارها الضروريات الأساسية للحياة»، في حين ذهب البعض الآخر إلى مفهوم أوسع للتنمية «عملية تقوم أساساً على تحقيق خيارات الإنسان، والتي تقود إلى المواساة في إتاحة الفرص للأفراد والمجتمع والمشاركة في صنع القرارات، التي تمس مناخ الحياة المختلفة»، ويرى آخرون أن التنمية «عملية مستمرة متكاملة ومترابطة أداتها وغايتها الإنسان».. ولكي يكون للحياة معنى فإن التنمية تضع الاحتياجات الأساسية للإنسان في مقدمة أولوياتها وترفع من مستواه المعيشي ومن تفكيره وترقى بعقليته إلى فهم مبدأ المساواة، واحترام حقوق الآخرين أكانوا رجالا أم نساءً وعدم التمييز أو التعصب بمختلف أشكاله ورفض هيمنة أو استعلاء فئة معينة على فئات أخرى. وعن التنمية كثيراً ما نسمع ونقرأ عن بلدان أعدت ما أسمته خطط تنمية، في حين هي ليست كذلك، وهي مجرد برامج أو قوائم مشاريع استشارية في قطاعات مختلفة كالصناعة والزراعة والخدمات، ولم تراع فيها الأولويات أو الترابط أو التكامل، والمشكلة أن الأخطاء في تجارب هذه البلدان تتكرر- مع الأسف - فيلاحظ مثلاً بعد الانتهاء من تنفيذ عدد من المشاريع الصناعية والسكنية، أن الكهرباء المتاحة لا تغطي احتياجات السكان والمصانع معاً، وبعد فترة تظهر مشكلة شحة المياه، لأنه لم يحسب حساب لمتطلبات تلك المشاريع من الكهرباء والماء، كما يلاحظ أيضاً عدم التنسيق والترابط بين الدوائر المنفذة المختلفة في برامجها الزمنية، فإدارة الطرقات يكون برنامجها سفلتة مجموعة من الشوارع هذا العام فتقوم بتنفيذها، وما أن تنتهي هذه الإدارة حتى تأتي بعدها إدارة أخرى كإدارة الهاتف أو إدارة المياه إلى نفس الشوارع لتبدأ الحفر لمد الكابلات أو أنابيب المياه بحجة أنها تنفذ مشاريعها بحسب البرنامج المرسوم لها في الزمن المحدد في خطتها، والغرابة أن الدوامة تستمر عندما تأتي إدارة المجاري بعد انتهاء هؤلاء لتبدأ الحفر من جديد تحت نفس الحجة. وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الأمور تسبب للأهالي - قاطني تلك المناطق التي فيها العمل - الكثير من العناء والمشقة، وخاصة الأطفال وكبار السن، ولا يقتصر الموضوع على ذلك، والأمر فيه هدر للوقت والمال العام، وهذا ناتج عن عدم التنسيق والترابط بين المشاريع، وسوء التخطيط وقصور في مفهوم التنمية من جهة، ومن جهة ثانية لو كان الأمر مقصوداً أو فيه مآرب آخرى لا قدر الله، فتلك هي الطامة الكبرى.

وحول مفهوم التنمية والتحديث، فقد حدثني ذات مرة أحد خبراء التنمية الدوليين عن انطباعاته حول التغيرات الكبرى التي شاهدها في عدد من مدن اليمن، وبعض مدن دول المنطقة، فقال: «إن ما شاهدته في هذه المدن من مظاهر حضارية أبهرتني، كالمباني العالية والزجاجية واستخدامات الكمبيوتر في البنوك والشركات والإدارات المختلفة، وركوب أفخم السيارات والمطارات الهائلة والمطاعم الراقية والشوارع الواسعة والحدائق الجميلة، وغيرها من مظاهر التحضر، ولكن ما حصل من تغييرات إيجابية في كل هذه الأشياء اسمية تحديثاً Modernization ولا أسمّيه تنمية Dovelopment، لأننا ما إذا ما قارنا هذه التحويلات والتغييرات بين الحاضر وقبل ثلاثين عاماً على المستويين المادي والإنساني، لوجدنا أن الأمور المادية التي ذكرناها حصلت فيها تغييرات إلى الأفضل بشكل مذهل وملحوظ، أما الإنسان فلم يتغير بنفس المستوى، فعقليته ما زالت نفسها، وإن حصل فيها تغيير فهو بسيط ولا يرقى إلى مستوى التغيرات المادية التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية، ونلاحظ أنه ما زالت تسيطر على هذا الإنسان كثير من العادات والتقاليد السلبية القديمة، والتي لا تتماشى مع العصر الحديث من حيث سلوكه ومستوى تعليمه والتزامه بالقوانين، ونظرته للمرأة واحترامه للرأي الآخر، فالتنمية تعني تطور الجانبين الإنساني والمادي معاً إلى الأفضل، بينما التحديث يرتبط أكثر بالنواحي المادية والمظهرية». هذا ما قاله لي الخبير الدولي. وفي بلادنا ما زال - مع الأسف- الإرث الثقافي القبلي البائد مسيطراً على عقليات الكثير منا، وحتى لو تظاهر البعض بملبسه الأنيق المتحضر، فالبدوي ما زال بدوياً، والقبلي ما زال قبلياً والعقلية نفسها لم تتغير، وهذا يذكرني بمقتطع قصيدة غنائية لشاعرنا الكبير المرحوم حسين أبوبكر المحضار الذي قال: «عبود هو ذاك هو ما شيء انقلب (تغير) في عبود»، وحده مغير الأحوال.

وما دمنا بصدد الحديث عن التنمية والتحديث والمظاهر، فإننا سنعرج قليلاً على بعض المشاريع الإنمائية في محافظة حضرموت فقط كنموذج وربطها بموضوعنا، ولكننا قبل ذلك نود أن نؤكد إن كل إنسان بأي مستوى دراسي كان أو حتى الأمي يجب أن تظهر بلاده أو مدينته بالمظهر الحضاري اللائق مشيدة بالمباني الزاهية، مزينة بالحدائق والنوافير الجميلة والأرصفة والشوارع المنارة والواسعة، وأن يرى كل شيء جميلاً فيها لأن الله جميل يحب الجمال وملاحظاتنا حول تلك المشاريع كالتالي:

في محافظة حضرموت
أ- نتقدم بالشكر الجزيل للجهود الكبيرة التي يبذلها الأستاذ عبدالقادر علي هلال، محافظ حضرموت في الإشراف والمتابعة بنفسه على تنفيذ تلك المشارع، ومعه الجنود المجهولون من أبناء المحافظة ومن خارجها، ولعل من أبرزها خورالمكلا، المشرورع الحضاري الذي ظهر كنهر ذي ضفتين أعطى لمدينة المكلا رونقاً حديثاً ومنظراً جميلاً زاد من جمالها الخلاب في اندماج مائي بينها وبين بحر العرب، وأصبحت مصدر فخر واعتزاز لسكانها وجميع المواطنين، حكاماً ومحكومين، ولا يفوتنا أن نتقدم أيضاً - واعترافاً منا بالجميل والعرفان- بكل التقدير وجل الاحترام للمستثمرين المغتربين من أبناء حضرموت، الذين أقاموا مجموعة من المشاريع الضخمة في المحافظة من أموالهم الخاصة، والذين نعتقد أن الإعلام الرسمي المرئي والمسموع والمقروء لم يوفّهم حقهم من التغطية الكافية لتعريف الرأي العام بما قام به هؤلاء المستثمرون من إنجازات بصورة توازي حجم استثماراتهم الهائلة.

ب) تتكون محافظة حضرموت من ثلاثين مديرية، وهي أكبر محافظة في الجمهورية من حيث المساحة والثروة النفطية والسمكية، وإن أهم المشاريع واكبرها متمركزة في مديرية واحدة، هي مديرية المكلا، بينما معظم مديريات المحافظة تعاني مشاكل جمة في تدهور البنية التحتية وفي عدم توفير مواد كافية لصيانة المستشفيات والمراكز الطبية والمدارس مع انقطاعات يومية في الماء والكهرباء، وكما أشرنا أن التنمية الإنسان هو أداتها وغايتها فأين نحن من هذا المفهوم؟

ج) احتفالات العيد الخامس عشر للوحدة بالمكلا تحمل في ثناياها معاني كبيرة وكثيرة، ومع تقديرنا لكل المشاريع التي أقيمت فإنها تليق بالمناسبة وبالحدث العظيم، والمتمثلة في إضاءة الشوارع وتشجيرها ورصفها وبناء النوافير الكبيرة، فكلنا أمل ان تستكمل المشاريع وردم الحفريات المفتوحة في شوارع المكلا الداخلية وأن توفر المبالغ اللازمة للصيانة للفترة التي تلي الاحتفالات ولا تترك للصدأ والأتربة والرياح لتنال منها، وألا تكون مجرد مظهر من المظاهر المؤقتة تنتهي وتزول بانتهاء المناسبة.

الخلاصة والمقترحات
1- لكي تخدم مشاريع الدولة التنمية- وليس مجرد تحديث أو مظاهر- يجب أن يركز على المشاريع التي تحتل الاولوية المرتبطة بحياة الإنسان، والمتمثلة في توفير فرص العمل للعاطلين والاهتمام بقضايا التعليم والصحة والماء والكهرباء، وألا تكون المظاهر على حساب تلك الأولويات.

2- ضرورة أن تتضمن الموازنة السنوية صرفيات التشغيل والصيانة للمشاريع المنفذة في كافة محافظات الجمهورية للحفاظ عليها واستمرارها.

3- التأكد من التزام المقاولين بمواصفات وشروط العقود المبرمة معهم لتنفيذ المشاريع بوجه عام، وتلك التي تم تنفيذها في مديرية المكلا بعجالة بوجه خاص.

4- ضرورة إيجاد مزيد من التنسيق بين الدوائر الرسمية المختلفة قبل تنفيذ مشاريع المياه والمجاري والهاتف والطرقات، من خلال وضع خطة مترابطة تحدد مراحلها وفترتها الزمنية.

5- ضرورة منح المحافظات مزيدا من الصلاحيات بمبدأ اللا مركزية بغية تقليص الروتين القائم على المركزية وتفعيل عملها وكسب الوقت والجهد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى