إمام المسجد الذي فقدناه

> «الأيام» فريد صحبي :

> سقط في المحراب.. نصف قرن إماما في المسجد.. كيف لا يكرمه الله بأن تكون سقطته بين يديه.. نصف قرن انصياعاً لأمر الله .. اقرأ.. أقم الصلاة لذكري .. وكالأسد ظل قابعاً في المحراب.. يقرأ ويصلي .. نصف قرن .. يقرأ ويصلي .. تهفو إليه قلوب المصلين إماماً وواعظاً ومرشداً!

ذلك هو شيخنا الجليل العلامة أحمد بن أحمد مهيوب الجبيحي.. عرفه الناس في عدن شيخاً عالماً يمشي في الأسواق.. يتجاذب الحديث مع الصغير والفقير والأشعث والأغبر.. ليس فيه ذرة من كبر.. ما إن يدخل المسجد ترمقه العيون.. تتابع خطواته .. تقول له كما قال الرسول [(أرحنا بها يا بلال).. يتابع خطواته .. يمشي ملكاً.. فيدعو لإقامة الصلاة.. وإذا قرأ القرآن فهو يرتله ترتيلاً.. وبذات الإيقاع الهادئ والنبرة الرخيمة والصوت ينساب كجدول ماء صافٍ عذبٍ رقراق!

شيخ جذاب يدعوك للاقتراب .. لا يتجهمك .. وإذا سألته فهو سريع الجواب.. أقرأ عليه آية فيجيبني أنها في سورة كذا ورقمها كذا.. أساله في حقوق الزوجة في الصوم في الميراث في الزكاة في تفسير الآيات في قواعد النحو والبلاغة في الحديث ومناسك الحج وقصص الأنبياء والصحابة .. أساله وقبل أن ينتهي السؤال تكون الإجابة!

إذن الرجل أخلص العمل لله .. لم تكن صلاته تظاهراً .. على طريقة (صلي له يقرب).. ولا لحيته ولا قميصه كان ازدراء أو تعالياً على الناس.. أو كان يكسوه مظهره شعوراً بأنه حامي حمى الإسلام أو أنه العارف بالله وحده (رُب أشعث أغبر لو دعا ربه لأبرّه).. لم تكن إذن عبادة الشيخ ولا عبادته لمآرب أخرى .. وتواضعه كان طبيعة فيه.. لم يكن تواضعاً مصطنعاً .. لا يدس أنفه في شؤون غيره.. (أنتم أعلم بأمور دنياكم) .. وإذا اعترض فبالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة .. {وجادلهم بالتي هي أحسن} .. وليس مثله يحسن الاستماع .. وإذا حدّث فحديث لين وبيان وكلامه ليس أي كلام .. فهو لا يهرف بما لا يعرف!

هكذا ملك الشيخ أحمد مهيوب ثروة من القلوب.. فزعت يوم مرضه وهرعت يوم وفاته تشيعه أفواجاً وهو في طريقه إلى الرفيق الأعلى .. يوم قمت بزيارته في المستشفى كان ممدداً تحت خطوط وموصلات الدواء والغذاء (الدريبات) .. قلت له وأنا أمسح بيدي على رأسه، ليعجل الله برحيلنا قبل رحيلك يا شيخ أحمد.. أما يوم وفاته فلم أعلم به إلا عندما اتصل بي سكرتير تحرير صحيفة «الأيام» الغراء الأخ العزيز عيدروس باحشوان الساعة العاشرة ليلاً ليسألني عن رقم هاتف الشيخ أحمد ويداهمني بالخبر، فأقفز من فراشي نحو الشارع وقد أغلقت المساجد أبوابها وتوجهت نحو الشارع الذي يسكنه الشيخ فإذا بالجموع تحتشد فيه .. صعدت درج البيت العتيق وشققت لي طريقاً وسط المعزين نحو الحجرة حيث كان الشيخ مسجى على الأرض.. جثوت على ركبتي الكليلة، ورُفع الغطاء من على وجهه الحنون ووضعت على جبينه قبلة أودعتها حبي وتقديري واحترامي للشيخ الجليل!

ترى ألا يستحق منا نحن أهل عدن أن نكرم هذا الشيخ؟ حيث أفنى عمره في تيسير وتنظيم أداء صلاتنا - قرابة نصف قرن- كما أمرنا الله وعلمها لنا رسول الله .. كما حفظها لنا من كل مبتدع ومغرور ومدّع.. ثم لم يبتغ وراء ذلك مالاً ولا جاهاً.. ترى ماذا لو أطلقنا اسم الشيخ على الشارع الضيق الذي عاش فيه في البيت العتيق؟ ذلك أدنى ما يمكن أن يكون عليه التكريم والعرفان لمثل شيخنا الذي فقدناه.. حتى نحفظ لأجيالنا اللاحقة تاريخ رجل من الصالحين به يُقتدى فاز بحبنا واكتفى .. ولعله عند الله من الفائزين بالجنة!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى