المرشدي.. أول من بشر وتغنى بالوحدة!

> «الأيام» أحمد المهندس :

> لم يغنّ فنان للوحدة ويبشر بها قدر ما قدم الفنان اليمني الكبير محمد مرشد ناجي، الذي أعتبره بحق فنان الشعب.. والذي كان ومازال أول من نادى بالوحدة اليمنية أيام كانت حلماً وخيالاً لا يمكن أن يتصور المرء تحقيقه يوماً ما.. فقد كان الشطر الجنوبي من اليمن ينزح تحت نير الوجود البريطاني والشطر الشمالي تحت حكم الإمامة والتخلف والجهل.

المرشدي الذي لم يغنِّ لحاكم ومسؤول ولم يطبل ليظفر كغيره من الفنانين بالمال والجاه.. بل جعل هدفه ومستقبله الغناء للوطن وبسطاء الناس.. نهل من التراث الغنائي الذي حاول الاستعمار أن يطمس معالمه، فطوره وأظهره إلى النور في موسيقى وألحان جعلت الآذان والقلوب لا تنسى الأصالة وفن الغناء اليمني، ترحل على بساط عوده بين أنغام كل مناطق وقرى ووديان وجبال وسهول اليمن.. أعاد لفن الغناء اليافعي وهجه وللون اللحجي أصالته، وأسس للأنغام العدنية لتعبر بإيقاعاتها عن البحر والجبل وأهل السلى.. طاف عبر الألوان والألحان بأعذب الكلام من الأحقاف في وديان حضرموت وبحرها وبين أهلها.. وقدم أغاني خالدة أصبحت من العلامات الفارقة في الأغنية الحضرمية.. تذكرت هذا الرجل الإنسان المبدع الذي لا ينسى تاريخه وعطاؤه وأنا أبحت عن فكرة أكتبها بمناسبة عيد الوحدة اليمنية الخامس عشر، الذي صادف 22 مايو المنصرم وأقيمت فعاليات احتفالاته هذه المرة وفي احتفالية كبيرة في حضرموت التاريخ والحضارة. ولأن الفن خير وسيلة معبرة عن هذه المناسبة السعيدة (الوحدة) التي تعدى عمرها عمر لوليتا نزار قباني الراحل المقيم.. فقد اخترت أن أكتب في الجوانب الفنية.. ولم أجد مدخلاً للتعريف بدور الفن في هذه الوحدة التاريخية المباركة وترسيخها والدعوة لها.. سوى أبو الفن اليمني الصديق العزيز الفنان المتألق محمد مرشد ناجي، أطال الله عمره ومتّعه بالصحة ومحبة الناس.

فمن منا يستطيع أن ينسى روائعه التي مهدت لهذه الوحدة من خلال خندق الفن، سلاح المواجهة الأول الذي كان يخشاه المستعمر وأسرة الكهنوت الظالمة.

من ينسى أغنية «يا ظالم» من كلمات الشاعر الرائع الفنان عبدالله هادي سبيت، التي قدمت في أول حفلة موسيقية وتاريخية تقام عام 1956م في عدن بل وفي سائر مناطق اليمن. وكانت بمثابة إنذار غنائي للظالم بأن سيأتي يوم يندم عليه بعد الظلم الطويل:(يا ظالم ليه الظلم ذا كله/ كم نايم في العالم صحا عقله/ ياظالم لا بد يوم ما تندم/ وباتعلم أن الكل بك يعلم)

وتكر سبحه إبداعات المرشدي الغنائية من أجل الوطن وتحريره من الظلم والاستعمار وأعوانه.. ومناصرة للأحرار من الوطنيين.. فعندما قدم الإنجليز عام 55م الأستاذ عبدالرزاق باذيب، رحمه الله، إلى المحاكمة أمام القاضي الإنجليزي نوكس ماور بتهمة إثارة الكراهية ضد الحكومة ومقاله عن المسيح الذي يتكلم الإنجليزية.. قدم المرشدي رائعة الشاعر لطفي جعفر أمان، التي كتبها بالمناسبة بعنوان (سأنتقم) بلحن ثوري رائع يفيض حماساً ووطنية، وأصبح بعد إذاعته على لسان كل الناس، وأغنية لذلك الزمان الجميل وأجياله:

(أخي كبلوني/ وغل لساني واتّهموني/ بأني تعاليت في عفّتي/ ووزعت روحي على تربتي/لأني أقدس حريتي/ لذا كبلوني/ وغل لساني واتّهموني).

ويستمر سيل الإبداع والأغاني في حياة فنان الشعب محمد مرشد ناجي، رائد فن الوحدة اليمنية وأول من نادى بها فنياً وثورياً، وجهر من خلال صوته الهبة بها.

فمن ابن الجنوب الحامل لأثقال القيود.. رائعة الشاعر الراحل المقيم محمد سعيد جرادة، الذي كان المرشدي أول من جعله يتجه بأشعاره إلى الناس من خلال تلحينه لقصيدته الخالدة «وقفة»، وكانت أغنية (ابن الجنوب) من الأغاني الحماسية التي حققت انتشاراً واسعاً لدى الجماهير في الخمسينات الميلادية من القرن الماضي، ولازالت حتى الآن تعيش في وجدان الإنسان اليمني رغم كل هذه السنوات.. كما أكد المرشدي وبشهادة كل الأجيال المعاصرة:

(أيها الحامل أثقال القيود/ يا أخي في الأسى يا ابن الجنوب/ يا عديم الذكر في هذا الوجود/ يا حزينا يوم أفراح الشعوب/ عيشك الحاضر صمتٌ وجحود/ وخضوع لتصاريف الخطوب). ووجد المرشدي طوال مسيرته الثورية الفنية من يقف مع توجهه وأهدافه من المبدعين من الشعراء والأدباء اليمنيين في عدن وصنعاء وتعز وحضرموت وكل مناطق الوطن الكبير.. يشاركونه أحلامه بالوحدة وللتخلص من الاستعمار الأجنبي والمحلي إذا صحت التسمية(؟!).

وكانت أغنية (وحدة) التي صاغ كلماتها التربوي الأديب الشاعر عبدالله فاضل فارع إحدى تلك الروائع المعبرة عن الأمل:

(بروحي وقلبي/ بعيني ولبي/ بروحي فديتك/ بقلبي هويتك).

محمد مرشد ناجي
محمد مرشد ناجي
ولحنها وتغنى بها المرشدي بإحساسه الوطني العالي.. وكان موفقاً فيها.. فقد كان اللحن على حد تعبير الراحل أحمد شريف الرفاعي آية من آيات النغم.. جنوبي أصيل أخذ من ربى يافع فرحة القلب بالوحدة ومن وهاد صنعاء رنة العود الرخيمة.

ولم يغنّ وبشهادة المؤرخين للفن اليمني فنان على مستوى الوطن العربي لوطنه أغاني وطنية وحماسية فيها صدق الكلمات والألحان.. قدر ما غنى الفنان الكبير محمد مرشد ناجي للوطن واليمن الواحد وللشعب الواحد الذي آمن به وبدوره في الحياة الإنسانية والمستقبل والثورة الكفيلة بتحقيق كل هذه الطموحات والأحلام.

وكان ولازال خير من يعبر عن هموم البسطاء من الشعب اليمني.. وخير من يجسد أحلامهم وتطلعاتهم لغد أفضل.. وخير محرض على الثورة والوحدة التي بها وحدها يتحقق الأمل والنصر وتعود اليمن سعيدة خضراء بأهلها وتاريخها.. وقد كان ذلك:

(أنا الشعب زلزلة عاتية/ ستخمد نيرانهم غضبتي/ ستخرس أصواتهم صيحتي/ أنا الشعب عاصفة الطاغية).

ومن رائعة عبدالعزيز نصر (أنا الشعب) إلى رائعة رفيق الدرب الدكتور سعيد الشيباني من أيام دراسته الأولى بالقاهرة وحتى العودة لحضن اليمن ليساهم في نهضتها.. يستمر موج الغضب والثورة:

(شعبي ثار اليوم جدد ما غبر/ لا ينال المجد إلا من صبر).

كان المرشدي كصوت للشعب معبراً بصدق عن كل ما يجيش في أعماقه من اعتزاز بالوطن وإيمان برجاله القادرين على قهر الظلم وتحقيق الوحدة والثورة والتحرير والظفر بالحرية:

(في مهجتي منزلك / في الروح في قلبي/ وأنت المنى والفؤاد / لو تشتهي قربي).

كان يبشر بلا ملل بالثورة في كل موقع ومدينة.. سبق مدافع الأحرار ومهد لها لتدك بعد ذلك قواعد الأعداء بالرصاص والمدفع والبازوكا.. بعد أن دك بصوته وألحانه وكلمات خالدة مضاجع الاستعمار والعملاء والخونة.. حتى تجاوزت أغانيه الإقليمية والمحلية، وأصبحت علامة مميزة للثورة، وغطت سحبها سماء وجغرافية الوطن:

(هنا صنعاء من فم كل ثاير/ ومن روح العساكر والعشاير/ ومن لب القلوب من الضماير/ ومن نور العيون من البصاير/ هنا اليمن السعيدة).

ويستمر النداء في كل يوم وعلى امتداد الأيام والسنوات التي سبقت شرارة سبتمبر وردفان:

يا بلادي يا نداء هادراً يعصف بي يا بلادي يا ثرى ابني وجدي وأبي

وأخيراً تحققت الوحدة رغم أنف الأعداء والمرتزقة.. وأصبح الحلم حقيقة وواقعاً معاشاً ومفرحاً.. وها هو العيد الخامس عشر يسطع في الآفاق واقعاً كان ينتظره ويحلم به كل الأحرار في العالم قبل أهل الفرح والدار.. فوحدة اليمن نموذج يحتذى به.. فاليمن الأصل والتاريخ.

(أنا يمني.. واسأل التاريخ عني.. أنا يمني/ أنا كونت معيناً وسبا/ أنا من شيد غمدان ومأرب/ أنا لولا أن أمي والأبا / صنعوا صنعاء فنارا للأجانب/ وسأبني موطناً.. وسأبني من جديد/ صائحاً يا أيها التاريخ سجل.. أنا يمني).

كل عام والوحدة اليمنية بخير.. والأغنية اليمنية بخير.. والشعب اليمني بخير، والرائد الذي تغنى لهذه الوحدة وبشر بها وشهد مولدها وتحقيقها واحتفالاتها «مرشد» الأغنية اليمنية محمد مرشد ناجي بخير.. وكل عيد وحدة مباركة وكل الأحرار بخير.. وسلامتكم.

ناقد وصحفي سعودي - رئيس تحرير مجلة «العقارية»

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى