> الحوطة «الأيام» هشام عطيري:

في مساء يوم صيفي حار، وصل حسين أحمد، شاب ثلاثيني من مدينة الحوطة بمحافظة لحج، إلى مستشفى خاص في عدن، يشكو من آلام شديدة في البطن، وارتفاع حاد في الحرارة، وإعياء جعله بالكاد يقوى على الكلام. بدا الأمر كحالة طارئة عادية، لكن المفاجأة التي اكتشفها الأطباء لاحقًا، كانت أقرب إلى مشهد من أفلام الرعب أو الخيال.

فريق طبي بعدن يستخرج 117 مسمارا من بطن شاب لحجي
فريق طبي بعدن يستخرج 117 مسمارا من بطن شاب لحجي

فعندما تم إخضاع حسين لفحص الأشعة المقطعية، ظهرت صورة غير متوقعة وهي كتلة ضخمة ومتشابكة من المسامير داخل معدته! لم يكن هناك متسع للانتظار، فتم نقله مباشرة إلى غرفة العمليات، حيث أُجريت له جراحة استكشافية طارئة، كشفت عن الحقيقة الصادمة: 117 مسمارًا بطول 2 إنش، وإبرة خياطة كبيرة كانت مغروسة في جدار المعدة واخترقته حتى وصلت إلى الفص الأيسر من الكبد، مسببة خراجًا التهب وبلغ حجمه نحو 200 مل.


لكن الجزء الأشد غرابة في هذه القصة، ليس فقط عدد المسامير الهائل، بل أن حسين نفسه لا يعلم كيف دخلت إلى بطنه."لا أتذكر أي شيء.. فقط ألم شديد، وحرارة، وتعب"، قالها بعد الإفاقة من العملية، وهو ينظر إلى الأطباء بابتسامة خفيفة غامضة.
  • أسرة في صدمة
عند لقاء صحيفة "الأيام" بوالد حسين، أحمد حسين الحاج، بدا عليه الذهول الذي لم يبارحه منذ الحادثة. يقول الرجل الخمسيني: "ولدي كان طبيعيا.. يشتغل أعمال عضلية، ويعيل أسرته، متزوج وعنده ثلاثة أطفال. ما كنا نلاحظ عليه شيء، إلا في الأيام الأخيرة، لما بدأ يتعب ويتغير" .


بدأ حسين يعاني من خمول، وفقد شهيته للعمل، وابتعد عن أصدقائه. اعتقدت العائلة أنه ربما مصاب بمسٍّ أو سحر، فلجأت إلى الرقية الشرعية. "ظنيناها حالة روحية، لكن الألم في بطنه زاد، وانتفخ جسمه، فقررنا نودّيه للمستشفى"، يقول الأب. وهناك، كانت المفاجأة.


ويضيف: "لما شفنا الأشعة، والدكتور يقول لنا: مسامير! ما صدقنا. قلنا له ارجع وتأكد.. لكن نفس النتيجة. جينا نتسلف وندبّر قيمة العملية.. وبعد ساعات من الانتظار، خرجوا لنا بكيس مليان مسامير. والله كأنها طلقات رصاص خارجة من جسمه."
  • ماذا يقول الطب؟
في منشور رسمي، أوضح مستشفى عدن الدولي أن الفريق الجراحي واجه حالة طبية ونفسية نادرة، يُشتبه أن لها علاقة بما يعرف بـمتلازمة بيكا (Pica Syndrome)، وهي اضطراب نفسي وسلوكي يجعل المريض يتناول أشياء غير غذائية كالتراب، الشعر، البلاستيك، وحتى المسامير.


الفريق الطبي الذي أجرى العملية ضم كلًا من د. عبدالواحد الدقم، اختصاصي الجراحة العامة والأورام، ود. أحمد عبدالواحد الدقم، مقيم جراحة عامة، إضافة إلى طاقم تخدير وعمليات كامل. العملية استغرقت ساعات طويلة، وأدت لاستخراج المسامير والإبر، بينما ما تزال خمسة مسامير مستقرة في القولون، لم يتمكن الأطباء من إخراجها بعد، وقد تخرج طبيعيًا لاحقًا - أو تبقى وتسبب مضاعفات.


د. محمد اليهري، جراح عام، قال لـ "الأيام":"ابتلاع الأجسام الغريبة ليس فقط حالة طبية، بل إنذار لحالة نفسية أعمق. بعض المرضى يبتلعون أشياء بهدف إيذاء النفس أو بدافع قهري أو هوسي. هذا النوع من السلوك يتطلب تدخلًا نفسيًا عاجلًا بعد استقرار الحالة الجسدية" .

ويؤكد اليهري أن بعض الحالات تعاني من أمراض عقلية أو اضطرابات ذهنية، أو حتى ميول انتحارية، وقد يكون هناك غياب تام للإحساس بالخطر أو التمييز بين المأكول وغير المأكول، لا سيما إذا كان الشخص يعيش تحت ضغوط نفسية أو في بيئة مهملة.
  • تفسيرات نفسية
الدكتورة لميس ثابت السروري، اختصاصية نفسية، وصفت الحالة بأنها "صادمة ونادرة"، وقالت إن هناك عدة احتمالات لتفسير سلوك حسين:

اضطراب بيكا القهري: تناول المسامير قد يكون ناتجًا عن اضطراب نفسي يدفع الشخص لتناول أشياء غير غذائية بشكل قهري.


الذهان: قد يكون الشخص يسمع أصواتًا تأمره بابتلاع أشياء.

اضطراب الشخصية الحدية أو الاكتئاب الحاد: محاولة لإيذاء النفس بطريقة لا واعية.

بيئة اجتماعية مهملة، أو وجود تجربة صادمة دفعت المريض إلى هذا السلوك كنوع من الاحتجاج أو لفت الانتباه.


وتضيف الدكتورة لميس:"الحالة تحتاج لتقييم نفسي شامل، يشمل مراجعة التاريخ المرضي، والحالة الذهنية لحظة ابتلاع الأجسام، وفحص شامل من فريق مكون من طبيب نفسي، اختصاصي اجتماعي، واختصاصي سلوك".
  • النهاية مفتوحة
اليوم يرقد حسين على سريره، منهكًا بعد الجراحة، وحائرًا في الإجابة على السؤال الذي لم يجد له أحد تفسيرًا: كيف دخلت المسامير إلى بطنه؟!

أما والده فما زال يتأمل كيس المسامير التي عرضها عليه الطبيب، كأنها أدلة من جريمة غامضة، ويقول: "كل مسمار منها قصة، وكل إبرة صرخة ما سمعناها من قبل."

وبينما يستعد حسين لمغادرة المستشفى، تظل المسامير الخمسة المتبقية في القولون علامة استفهام... وربما تذكارًا لحالة ما زال الطب والنفس يعجز عن فك شيفرتها بالكامل.